غدًا.. سأقوم بتمثيلية
أنا وهي
بعد الثامنة عشر، ما عدتُ أنا. وبعد الثامنة والأربعين، ما زالت هي، ولكنها مشتتة، مثلي تمامًا.
أنا الآن في البعيد. الجو باردٌ هنا بشكلٍ بغيض. التقلّبات الجويّة-حرارة ساخنة- برودة رطبة- برودة جافة- كلها تؤثر على جسدي بطريقة مؤذية. في البدء انتقلتُ إلى قارة أخرى. البُعد كان سحيقًا، باردٌ ومثلجٌ أيضًا. في الواقع، تلك كانت أول مرة في حياتي أرى البياض. كان بياضًا مغلَّفًا بالوِحشة المطمئنّة. أما بالنسبة لها، فهي لم تجد مكانًا واحدًا تُلمّ فيه شتاتها. لقد تبعثرت، في البرد والحر. تأثرت للغاية. واستحالت إلى أجساد عديدة متنافرة حينًا وقريبة حينًا أخرى.
لقد دَخَلَ عليها لسانٌ جديد. وأنا أيضًا. لسانٌ رأيتُ فيه الضياع الذي ذاقته هي.
قضيت عامًا هناك ثم انتقلت. عُدتُ، وغادرْت. إنني الآن بعيدٌ أيضًا، وفي هذا البُعد اكتشفت أنه لا يُقاس بالأمتار. إطلاقًا، إنما يُقاس بالقلوب المحيطة بنا.
هنا لم أجد شيئًا، وذلك للأسف الشديد كان تمامًا ما حدث معها منذ أن غَادَرَت أول مرة. كلا، من قبل أن تغادر حتى.
نافذة غرفتي التي أكتب فيها الآن حمراء. إنها تُشعّ ضَوءًا أحمرًا دون بقية نوافذ البناية. نافذتي تذكرني بالدماء، الدماء التي فَقَدَتْها في مشوارها الذي لم ينتهي إلى الآن، تمامًا كمشواري.
أحسب أنني الآن في أفضل الأحوال، أو لنقل، منذ الثامنة عشر. ولكنها ليست كذلك. هي الآن صامتة وقد تسرّب صوتُها في بئرٍ لا قاع له. إنها تُنتَهَك في صمت. صمتُها هي، وليس صمت من ينتهكها. إنه يضحك وهو يفعلها! ويحسب الجميع أنها ضاعت للأبد. أنا أعرف أنها ليست كذلك، إنها موجودة، حيّة ولكنها مُرهقَة. لا تعرف، ربما تضيع أنت وتعود هي. أو تعود هي في وقتٍ لن تكون فيه أنت أساسًا، المهم انها عائدة، وكلانا يعرف، أن ذلك محتوم.
إنني أكتب وأدرس وآكل وأقوم ببعض التمارين، ويحسب الجميع أنها خبت في عقلي. كم هو مضحك وغريب، أن يكون عقلك اللاواعي معها، فتظهر أعراض أفكارك بها في حين وآخر، دون أن تنتبه، ليحسب الجميع أنها طفرة مُفاجِئَة تموت في ساعات، ولكن أحدًا لا يعرف أنها مغروسة بداخلك، أنت هي وهي أنت، ولا يهم رأي أي أحد في شكل اتصالكما. إنها الجذور، جذورها وجذورك واحدة، وما تفرّع منكما سيلتقي حتمًا بالآخر حتى ولو بعد أمدٍ بعيد.
غدًا.. سأقوم بتمثيلية. سأسافر كعادتي، ولن أشرب شيئًا طوال الطريق كي لا أضطر للوقوف فيه. سأتماهى مع الطريق كأنني واحد معه. سيصيبني الجفاف حتمًا، كالعادة التي لا انفك عنها. سأجرب ما تجربه هي، سأعيش، كما يتفق لها أن تعيش. بمعنى آخر، سفري هو سفرها الذي لم ينتهي، وامتناعي عن الشرب هو امتناعها عن الارتواء العابر وانتظارها للوصول حتى تشرب. إصابتي للجفاف محتومة، فهي أيضًا يابسة. وتسرّبي خلال مشهد السفر هو ذاته انصهارها في الخلفية، منذ أعوامٍ عديدة، لم تتغير وقد أصبَحَت عمود إنارة في الطريق، اسفلت أسود، الخطوط الصفراء الباهتة، الصفحة السوداء أو الزرقاء، كل الأشياء التي لا يسمع أنينها أحد، رغم انها تئن، وهي موجودة فعلًا، ولكن لا يتحسسها بشر، والرب وحده من يسمعها. لمجرد أنهم اعتادوا رؤيتها فصارت خلفية وجهتهم، هل رأيت من قبل من كانت وجهته عمود إنارة؟ إنها كذلك، ليس مقارنةً للأهمية، وإنما مشابهة لما يوجد خلف النظر.
أعرف أني أمارس إسقاطات كثيرة، مهلًا، المقال كلّه إسقاط! ولكني في الحقيقة، لست بآسف، لطالما شعرت أن عقول من بهذه البلدة أصابها التبلّد من البرد، ربما بهذه الطريقة يفهمون ما أرمي إليه. آه! تؤلمني عضلاتي. ورأسي أيضًا. إنني أحاول الوصول إلى أشياء عديدة، وتحقيق أكبر قدر ممكن مما أستطيع فعله والنجاح به. لا أعرف لم أوزّع جهدي بهذه الطريقة. يجدر بي الصمت والصيام عن كل ما أفعله وأسمعه، وأولّي وجهي شطر الكتابة، وهي.