الجحيم البارد

عانى فوجد في عنائه الراحة، وكّد وشقى فوجد في كدّه وشقائه ما يصبّر به نفسه، ويقوي من عزيمته، ويحصد منه غراس كينونته وسبب وجوده وقيمته. نظر فلم يجد من هو هائم على وجهه عائد إلى بيته تحت جنح الليل غيره، لا يدري بأي يدٍ فارغة يمسح دموع أولاده، أولاده الخاشعين حول الفراش الرث الذي لا يجد ما يرتقه أو يقيم صلبه، عليه شبح جسد مصفرّ لا يتحرك به عضو، تراه فتحسبه جثة هامدة لولا حركة الشفاه التي تنم على الأسى البليغ. إنها الشفقة على الضنا، ومخافة تركهم لسيف القدر وصروف الدهر، فهي العالمة بما تخبئه الأيام بلياليها المظلمة، وأن في الدنيا وحوشاً ينهشون في الناس كنهشهم في اللحم المغطى بالعسل، ولا يجدون حرجاً في ما إن كانوا أغصاناً غرّةً قُطعت منذ أمد قريب لا تجد لها قراراً أو موضع قدم ثابت على سطح الأرض.

 

عناؤه وشقاؤه لم يثمرا، فليس كل من كان حسن النية صافي القلب وجد جزاءه بالمثل هنا، في الحياة الدنيا، بل النقيض ما يحدث، أصحاب الخبث وشرار الخلق من يبتسم لهم ثغر الحياة وتتسع لهم أجنحتها، وضعاف الناس وأقلهم حيلة هم من تكشّر الحياة عن أنيابها لهم، وتريهم من الويلات والنوازل ما يجعل الرجل يحب طلعة الموت ويكره مداد العمر.

 

عندما سبقته الروح المؤنسة لتسبح في فضاء السماء الزلقة، شعر أن عيناه فرّ منهما البصر وأطلق ساقيه يحاول اللحاق بها. فلم يدري أيبكي لعلمه باستحالة وصول بصره إلى أنيسه أم لتلك الدقائق التي سيقضيها وهو يرى وجوه أولاده كأنهم أطباقُ من نور مقتبس من شمس رحلت عن عالمهم؟ هناك، شعر أن الأرض ليست الأرض ولا السماء، هي ذاتها التي نظر إليها في يومٍ كانت كفّه ملتصقة بكفّ أخرى كأنهما خلقا من جذع واحد. ثم لاحظ أن ظهره أخذ في التقوّس زيادةً عما كان عليه، فأدرك أن الحمل قد زاد، وأن الرفيق قد شحّ وجوده، وأن البكاء، كل البكاء، لم يعد كافياً ليترجم أياً مما تختلجه نفسه من نزعات وصيحات، واستفهامات.

 

تلك الاستفهامات التي كان يميل إليها ضرباً من اليأس، وفراراً من عذاب النفس، كان يتساءل عمّا إن كانت الذات العليا رحيمة به، أو على أقل تقدير تعطيه بضع دقائق من يومها الطويل -ولا شك- لتتفقد أحواله وتلبي دعاءه وتستجيب لرغباته وتخفف من آلامه. كان ينادي بصره في الهزيع الأخير من الليل حتى يعود فيحاول بعودته ذرف بعض الدموع لعلها تنفس عن مصابه، ولكن بصره عالقُ في السماء، حيث كان يظن في السابق، أن الخالق يكون على عرشه بانتظار الآملين.

 

كيف للشقاء أن يجد باباً يدلف منه إن كان صاحب المكان لا ينتظر من الحياة وردةً وحُبّاً؟كيف للسقف أن يهوي على رأس صاحبه إن لم يكن قد رفعه على نحو يظن به أن يصل القمر؟

لا أحد يُخذل وهو لم يتوقع أن يُرفع، ولا أحد يحزن وهو لم يتأكد ويتيقن أن الدنيا جنة وربيع مضمونة فيها السعادة.

Join