الدعاء
خلاصة قصيدة لفيكتور هيجو
ترجمة مصطفى المنفلوطي
قومي يا بنيّة إلى الصلاة، فقد نزل ستار الليل، ودبّ الشفق الأحمر في حاشية الأفق، وأطلّت عيون الكواكب من فروج السُّحب، وأجرى البدر المنير ليقته الفضية البيضاء على صفحة النهر، ومسحت أيدي النسائم المبتلّة بندى الليل عن أوراق الشجر، غبار النهار.
قومي يا بنية إلى الصلاة، فقد مات النهار، وماتت بموته الآلام والأحزان والأحقاد والأضغان، والمظالم والمآتم، ولم يبق من تلك الأعاصير والزوابع ما يعترض وفد الدعاء في طريقه إلى أبواب السماء.
قومي يا بنية إلى الصلاة، فقد أوى الناس إلى منازلهم، والطيور إلى وكناتها، والوحوش إلى أوجرتها، وأخذت الطبيعة مكانها من مرقدها، ولم يبق من أصواتها إلا أنين الراحة المتمثّل في جعجعة هذه المركبة المقبلة، وجؤار هذه السائمة العائدة من حقولها، ودمدمة تلك الرياح الضارية في ذوائب الأشجار، وأعالي الأبراج.
قومي يا بنية إلى الصلاة، فقد جاءت الساعة التي يجثو فيها الأطفال حول أسرّتهم حفاة الأقدام عراة الرؤوس، شواخص الأبصار، يطلبون الراحة من الله تعالى لآبائهم وأمهاتهم وللناس أجمعين، فترنّ أصواتهم، في علياء السماء، رنين نغمات الموسيقى في أجواز الفضاء فيرددها الملائكة طائرين بها إلى عرش الرحمن، فإذا فرغوا من دعائهم وقضوا حق الله عندهم، وحقهم عند أنفسهم ذهبوا إلى مضاجعهم وناموا نوماً هادئاً مطمئناً تتطاير فيه الأحلام الجميلة حول أفواههم الباسمة، كما تتطاير أسراب النحل حول أحواض الأزهار.
قومي يا بنية إلى الصلاة.. واطلبي الرحمة لتلك التي التقطت ذرّتك الأولى من عالمها، ثم اتخذت لك من حنايا ضلوعها سريراً قبل سريرك ومن أحشائها مهاداً قبل مهادك، والتي قدّم لها الدهر كأسي شقائه ونعيمه فشربت الأولى وآثرتك بالأخرى.
اطلبي لها الرحمة فإنها كانت طيبة القلب، طاهرة النفس، تحب حتى من لا يحبها وترحم حتى من لا يرحمها، وتبتسم ابتسامةً عذبة صافية لا يمازجها ذلك الرّيب الذي يمازج ابتسامات النساء، وتمدّ يدها إلى اجتناء كل ثمرة إلا ثمرة الشجرة المنهي عنها، وكانت تقف أمام مسرح الحياة الحافل بالزخارف والتهاويل وقفة المتمهّل الذي يتّهم سمعه وبصره، وتنظر إليه نظرة الحكيم العاقل الذي يعلم أن السعادة الكاذبة أمرّ مذاقاً في الأفواه من الشقاء الصادق، وأن الذين يضحكون سروراً بهذه الصور الخالية إنما يبكون من حيث لا يشعرون، وأن الجالسين حول مائدة الشهوات واللذائذ إنما يقامرون بأنفسهم ولا بد انهم خاسرون، فتحوّل بصرها، وتشيح بوجهها، وتعود أدراجها، بقلبٍ غير مخدوع، وفؤادٍ غير مصدوع.
أذكري يا بنية أن تطلبي الرحمة لأبيك كما تطلبينها لأمك، فهو أحوج إليها منها، ولأن الخطايا أثقلت ظهره فأصبح لا يستطيع أن يرفع رأسه إلى السماء، وغلّت يده، فلا يستطيع أن يمدّها بالدعاء.
أطلبي الرحمة للآباء العائدين إلى منازلهم تحت جنح الظلام بدموع منهلّة، وقلوبٍ واجمة، بعد أن سايروا الشمس من مشرقها إلى مغربها فلم يجدوا ما يمسحون به دموع أبنائهم الذين ينتظرونهم في منازلهم.
أطلبي الرحمة للأمهات الجالسات حول أسرّة أبنائهن المرضى وقد رجفت قلوبهن، وحارت أبصارهم مخافة أن يذقن مرارة الثّكل والثّكل كثيرٌ على قلوب الأمهات.
أطلبي الرحمة للبخيل الذي يجيع بطنه ويشبع صندوقه، والأحمق الذي يبتسم للمعان الحرير في صدره، والذهب في أصابعه، والملك الذي يشعل نار الحرب في أمّته، ليطفئ نار غضبه، والزوج الذي لا يحاسب نفسه على ليلة سوء يقضيها خارج بيته، ويحاسب زوجه على ابتسامةٍ تبسمها لرجلٍ غيره، وسائر البائسين الذين لا يشعرون ببؤسهم، والأشقياء الذين يظنون أنهم سعداء.
أطلبي الرحمة لهم، فإن الدعاء الخالص يستحيل في نظرهم إلى روضة غناء تزهر فوق أجداثهم، واركعي فوق التربة التي يئنون تحتها، واسقيها من دموعك قطرات باردة تبلّ غلّتهم، وتطفئ جذوة الحزن الملتهبة في أحشائهم، إنهم إلى الرحمة محتاجون وإلى الله راغبون.
أطلبي الرحمة للأبرار والفجار، والعصاة والطائعين، والملحدين والمؤمنين، وكلّ دارجة في الأرض، وكل سابحة في السماء، ولا تيأسي أن يستجيب الله دعاءك، فلكلّ بداية نهاية، ولكل سائلةٍ قرار.
كما أن النهر يصب في البحر، والطائر يقع على الغصن، والشمس تجري لمستقرّها، والنفس تصعد إلى عالمها، كذلك أبواب السماء، مفتوحة لخالص الدعاء.