الأَقْزَام

ونَعجَات أُخرى


في (سيكولوجية الجماهير) لغوستاف لوبون، أو في (الانسان يبحث عن المعنى) لفيكتور فرانكل، أو في (لماذا أخشى أن أقول لك من أنا) للأب جان باول، تجد، وسوف تجد في غيرهم، من  كتب علماء النفس الكبار، أن الانسان لا ينفكّ أن يتداعى أمام التكرار. 

أن تضرب أرضاً صلبة بحجر، محاولاً إحداث شرخ فيها، حتى يخالك الناس معتوهاً، فما تفعله في العُرف البشريّ هو ضربٌ من العبث، فتستمر على ما أنت عليه أياماً وشهوراً وأعواماً، ثم تجد نفسك والجميع يحدق بك من الأعلى، وأنت بالأسفل، تنظر إلى يديك، وتضحك عليهم، لأنك ببساطة، نجحت في إحداث الشرخ.


والآن أخبرني، أمناعتك النفسية أقوى من الأرض؟


كما يعرف القارئ الآن، عند هذه النقطة، أنه لا يوجد انسان خارق للعادة قادر على التصدي أمام هذا الحجم الكبير من الضغط والتكرار، فتتداعى -ولا بد- جدران نفسه المنيعة مع مرور الوقت، وفي حالات، دون أن يُلاحظ ذلك.

إنه من الصعب علينا، بعد فترة من الزمن، أن نُفرِّق بين حقيقتنا الشخصية في وقت ما من نموّنا، وبين ما نكتسبه من الواقع المعاش ولا يُعبّر بالضرورة عن شخوصنا. قد نوقن بأن التفاح أسود، لمجرد أننا اعتدنا على سماع ذلك. نعم هذه هي الحقيقة، أنت، وأنا، والجميع، نُساق في كلّ يومٍ عند البُكور، بواسطة شاشاتنا المحمولة، خلف تيّاراتٍ لم نصدّق يوماً أنها ستُوجد، فَنَهِبُّ معها عبر الوادي الالكتروني، وحين تتوقف، نتوقف نحن أيضاً.

السامريّون اليوم كثير. الجميع يلعب دور الناصح المثقّف، يخبرونك عن الطريقة المثلى لاستثمار وقتك، عن الأسلوب الأرقى لارتداء ثيابك، عن الأفكار المُثلى التي يجب أن تُضم إلى قاموس معارفك، وعن الأسباب التي دفعت بكافكا لوصايته بحرق مؤلفاته، وعن القوّة الصينيّة التي ستغزو العالم وفق استراتيجيات خطيرة لا أحد يعرفها، ولكنهم، السامريّون، يعرفونها! لأنهم ببساطة، سامريّون.

السامريّ هو من أخذ قبضة تراب من أثر حصان جبريل عليه السلام وألقاها على العِجْل الذي عبده بنو اسرائيل. هو أخذ التراب وألقاه. هم عبدوا العجل لأنه أصدر صوتاً من أثر التراب. هكذا، لا هو يفقه، ولا هم يفقهون.




السلعة الرائجة في السوق هذه الأيام هي ببساطة: الكلام

لا يمكنك أن تصبح دميةً دون أن تفقد عقلك. لا أعني الجنون هنا، بل أعني أن تفقده بالمعنى الحرفيّ للفقد، أن تفقد محفظتك، لا يعني أنها أصبحت مجنونة أو أنك أصبحت كذلك، ولكنك ببساطة، وبواقعيّة وعمليّة وتجرّد من الاستعارات، فقدتها. 

فلأجل أن تُصبح دميةً إرادتها معلّقة بحبال بشرية تلعب بك وفق السيناريو السياسي، يجب أن تفقد عقلك.

افقده، توقّف عن التفكير، توقف عن الخيال، عن القراءة، عن المطالعة والبحث، عن الاستقصاء، عن تتبع الحقائق، عن الاستزادة من خبرات الثِّقات، عن التدريب النفسي للتجرّد الكلّي من عوالق الحياة وكماليّاتها التي تشوش بصيرتك عن الأهم، عن التساؤل ورفض التلقّي المسموم والمُتلاعب به للمعلومات، توقف عن التشكيك بالأعراف، والآراء المتداولة، صدقها لأنها متداولة، اعتنقها لأنها تُكرر على مسامعك كل يوم، لأن فلاناً الأعظم اعتَنَقَها، اعتنِقْها أنت أيضاً، حتى ولو كانت متّسخة، فلتتسخ أنت أيضاً، الاتّساخ شيء جميل، استمر في عبادة الأفكار، والأعْلام، والأوجه، والأعراف، كُل وانكحْ ونَمْ، أنت مواطنٌ صالح، فارغ، وبلا معنى، ودمية قزمة.

Join