اللقاح خرزة في سبحة المستقبل

بين كل وباء ووباء لُقاح مُعلق على ذمة راوي الأزمنة.

عندما يسبحن عبدالله الظاهري

تعد الساعة الثانية عشرة صباحاً الوقت المثالي لإعداد الحليب الساخن لوالدي .. 

فبعد أول رشفة تُدار آلة الزمن لنسافر إما لطفولته أو لشبابه .. 

أو أحداث تشطر تاريخهُ نصفين أو .. لثلاثة أو .. لأربعة 

فخمس وسبعون عاماًعريضةً بما يكفي لتقسمها الأحداث كيفما تشاء..

ففي الآونة الأخيرة كان حرياً على الكوب أن يجذبنا لزمن الأوبئة حينما لقط ذبذبات صوت والدي قائلاً:

"ملك الموت ما لقى له حصير في غرفة حصه عشان يجلس عليه"

غصنا في بياض الحليب الذي نقلنا بدوره لبيت طين، تتخلله أشعة الشمس اللاهبة، 

وتتسرب  منه رائحة قيء نتنة ..

كان والدي صغيراً للحد الذي لم يدرك لِمَ مُنع من الدخول على اخته التي تأن طوال 

الليل .. 

وكنت بدوري أترقب ذاك الطفل الأسمر المرتاب والذي يحاول جاهداً معرفة ما لذي 

يحدث في تلك الغرفة ..

كنت أرى والدي طفلاً وأسمع صوته كهلاً يروى أحداث وقوفه ليلةً كاملةً أمام غرفة 

أخته حصه التي طَرز الجُـدَرِيّ جسدها بالكامل .. 

لم يكن يلتقط ذاك الطفل دلالة صمت "حصه" في الساعات الأخيرة من الليل ..

كانت ليلةً صيفيةً هادئة يتحكم فيها السموم جهات أصوات عائلته القادمة

من المجبب ..

رأيته ينقل عينيه من مجبب إلى غرفة حصه المغلقة بأحكام، وسمعته بصوته الكهل

 يقول:

“ولم أدرك حينها بأنه كان بيني وبين فرصة أن يُطرز الجُـدَرِيّ جسدي سوى أن يجلس الوباء على حصيرِ الغرفة..

وأنه خُيل لي كما لو كان ملك الموت يقف في منتصف الغرفة ينتظر فرصة هروبه منها 

ليخطفها للأبد ..

كما شعرت بأنه كان يسمع بكاء أختي مزنة المكتوم وحوقلة والدي .. 

وأزيز نافذة المجلس الشرقي الذي لم يخلو يوماً من أبناء العمومة والجيران 

والدلة التي كانت يدور بها أخي صالح كدوران الرحى وتملأ فناجيل الرجال .. 

لقد كان ضيفان الوحيدان ليلتها .. “

ملك الموت الذي لم يجد كرسياً واحداً ليجلس عليه ويدعى حصه وشأنها .. 

ووحش الجدري الذي ينتظر جسداً ليُطرزه ..

وما كنت أعرفه حقاً بأنهما ضيفان لم يرحب بهما والدي ولم يأمر أخي بأن يملأ لهما

 الفناجيل .. 

إذن لِمَ لم يرحلا ؟

فوالدي الكريم لم يكن كريماً ليلتها .. ولا باسماً أو بالأحرى " مسفهلاً " ..

لقد سحب والدي نفساً في عام ألفين وعشرون ميلادية شعر بزفرته طفلاً في

 الستينات يرتجف مرتاب ويجهل مالذي حل بهم ... 

ولكن ما أن انبلج الصباح ورأها محمولة على الأكتاف .. فهم ذاك الطفل بأنه بين الوباء والعدوى حصير عليه أن يحرقه .. 

 فالوباء ضيف ثقيل يصطحب بزيارته ملكاً لا يعرف الجلوس ينتظر فرصة خطفك للأبد ..

بيد سبعيني قلبَ والدي سبحته ليضيف صوتاً على جمود جنازة أخته حصه في مجلسهم الشرقي ..

ليلتقط والدي الطفل صوته كهلاً:

أياك أن تضع حصيراً للوباء ليجلس عليه .. مالم يكن ذاك بين يداك 

فسقط اللقاح في حجره لينقذ جارته ومؤذن حيهم وأهالي القرية بالأجماع ..

توقف والدي لبرهة وتسائل: 

يا تُرى من سيروي قصتنا مع وبائنا الحالي ؟

ويسقط علينا من حاضره لُقاحاً لينقذ ماضيه ؟