الوقوف في المطار يحرك الشجن
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزلِ
أبو تمام
أتذكر حينما نطقتها كانت بمثابة " النقطة " في نهاية الجملة .
أبتسم صديقي وأغمض عينيه مطولاً ليؤكد على جملتي ويؤيدها ..
جاء التأييد مغزولاً بثلاثة خيوط .. العقل والعاطفة والتجارب ..
ثم أضاف باستفهام مليء بظنونه المعتادة:
أنتي مثلي ؟
توقعت اني لحالي احس بكذا !
أبحرت في سردي ..
أنني بعد كل هذا الترحال المتعاقب و المتناوب
كان حرياً علي أن أصف لك مالذي جعلني أبدل بين الأطلال والمطار؟
ففي مقاعد الدراسة و حصص الأدب العربي تحديداً أعتدنا على حفظ بعض
الاجابات نرددها لضمان صحتها وجني درجات المشاركة ..
وفعلياً كانت كذلك ..
فقد اعتاد الشاعر الجاهلي يستفتح قصيدته بالوقوف على آثار ماتبقى من ديار المحبوب ..
ويصف ما تمكنه قريحته من ذكرها وتحديد مكانها وما آلت عليه بفعل الزمن وعوامل التعرية
فكانت تلك استفتاحيتهم أما للحنين لديار المحبوب أو بداعي البعد والشوق
وفي أحد الصباحات التي تأخرت فيها رحلتي المتجهة إلى مدريد
كما تعلم يا صديقي تبقى مدريد سيدة المدن لدي !
وجدتني أعوم في خيالي متأملةً الطائرات التي تهبط وتقلع في المدرج ..
وشعرت بالحنين .. لِمن؟ لا أعرف تحديداً ولكنني ..
ووجدتني أستطرد بشعوري إلى أن اهتز الشجن وتحرك ..
لأننا بوقوفنا في المطارات نستعرض كل الديار التي احببناها وألفناها
بأختلاف سبب حبنا لها ..
وكيف تغيرت ليس بفعل الزمن بل بفعل الترحال !
هجرها وتركها ثم العودة إليها لاحقاً يجعلك ترى كل الأشياء تغيرت
في كل مرة .. حتى و إن قصرت مدة الترحال أو طالت..
وبين ترحالٍ وترحال
ووقوف بالمطار تستعرض مشاعرك إزاء الأماكن ومالذي يفعله الترحال بها ..
ثم يتسع الاستعراض قليلاً ليشمل ايضاً مشاعرنا إزاء العلاقات التي رُبطت بالأماكن
تدريجياً حتى نصل إلى روائحها ..
اضاف صديقي مستشعراً : اممم !! وسحب نفساً ولكأنني شعرته يشتم رائحة بيت عائلته
الذي لم يعد كما كان عليه بفعل ترحال قصير متقطع ..
وقال: صح صح .. لكن كل شيء يتغير إلا روائح الأماكن تبقى..
تصفحت عيناي سريعاً لقاموس مفرداتي كي أنتقي كلماتي أكثر تهذيباً ومناسبةً :
أظنها تبقى في ذاكرتنا فقط ، ألا تتفق؟
: حتى وإن قصر الترحال ..
: أظن ذلك فكثرة الترحال يكوّن لديك ذاكرة متجددة من روائح الأمكنة ..
لتتزاحم وتدفع برائحة مكانك المحبب بعيداً ..
وكوننا نخشى فقدان الأشياء التي نحب
تسعى متمسكاً بها ما استطعت !
وحين عودتك لمكانك المحبب فأنك تشتمها بذاكرتك الشمية لا بحاستك ..
لذا فأن وقوفك بالمطار يحرك الشجن لأنك تستعرض كل ما يمكنك عرضه بذاكرتك فقط ..
ناكراً بقلبك تغييرها .. ذاك النكران الذي لا يصمد أمام كل المعطيات التي تؤدي بك لنتيجة
التغيير .. ولا تلبث أن لا تصمد أنت بدورك بالشجن الذي يلف ارجاء قلبك ويهزك.
تبددت غيمة الحوار بيني وبين صديقي بابتسامته ..
و التي تعني أن حديثي اصابه بمقتل.
ثم أضاف: أكتبي عنها .. فأنني أحب “اقراني”.
ولذا أنا هنا يا أصدقاء..