أتشفيك الذكريات أم تشقيك؟

رسالة حنين ورجاء 

الثلاثاء، ١٥ مايو ٢٠١٨ م.

الساعة: ٩:٥٥ مساءاً.

المكان: مكتبة الكويت الوطنية.

حرف موسيقي:

في صباح هذا اليوم..

وعلى طاولة المكتبة قرأت كتاب عابر سرير لأحلام مستغانمي واستوقفني ما جاء بين دفتيه:

تريد أن تقولَ كلمات متعذرة اللفظ، كعواطف تترفّع عن التعبير، كمرض عصي على التشخيص ..

تود لو استطعت البكاء. لا لأنك في بيته، لا لأنكما معا،لا لأنها أخيرا جاءت، لا لأنك تعيس ولا لكونك سعيداً، بل لجمالية البكاء أمام شيء فاتن لن يتكرر كمصادفة..

رُحت أمشط النص بأعين لطالما ضاقت فرحاً لتأمل ملامحك ..

ثم قفزت احدى عشر سطراً لأقرأ جمل شكلت هيئتك بخيالي ..

أنت الرجل الذي لا يبكي بل يدمع

لايرقص بل يطرب، لا يغنّي بل يشجى…

دفعتُ الكتاب بعيداً عن صدري، وناظري، وأمسكت بهاتفي لأكتب رسالةً بريدية:

وديدي، أتراكَ تتذكرُ صيف عام ٢٠٠٤ م ؟

حينما جلبت لك الفطائر الساخنة في ذاك الكوخ

الخشبي .. وسألتني بعيداً عن ثرثرتي حيال طابور المخبز، ومهارة الخباز :

أسماء .. قولي شيء سعيد !

قلت -بأندفاع صبية لا تعرف مالذي تحمله لها الأيام-:

أنا أكتب لك!

زفرت نَفس استحسان، وأردفت:

يسعد .. لكن تعرفين مالمحزن حقاً؟

دارت حدقتا عيني في محجرِها، وقلت بأسى:

محزن؟

أجبت:

أنك لا تعترفين بالاحتضان كتحية العودة للمنزل …


مضى على ذاك المشهد أعوام عدة .. تلاشت بعدها التحية، اِنْهَدَم المنزل الذي كنا نسكنه، وبُنِيَ بدلاً عنه مجمعاً تجارياً .. أتراكَ ألقيت عليه نظرة؟

لكَ أن تتخيلَ كيف أصبحت شرفتنا محلاً للكماليات، وصالتنا التي كنا نشاهد أفلامنا المفضلة تحولت لمحلاً للملابس، وسقفنا الذي كان شاهد عيان على إخفاقتنا في الطهي، وفي محاولة إنجاب طفل ايضاً …


وبعد كل هذه السنين لا أملك إلا أن أتذكركَ بين صفحات الكتب، وبين مشاهد الأفلام .. وأكتب لك رسائل بريدية ..

بالرغم من أنك تجاوزتني منتقلاً لمنزل آخر، وزوجة أُخرى، وأطفالاً تخيلنا أشكالهم،ومواقف مشاكساتهم سوياً …

فالكتابة لك كانت ضمن اتفاقات الطلاق ..

لقد انفصلنا بمنتهى التفاهم كبقية تعاملاتنا الإنسانية والعاطفية، كبقية حواراتنا اليومية و المصيرية ..

فالكتابة لك لم تكن يوماً كتابةً نفعية، ولا ذريعة لصقل مهاراتي الأدبية ..

الكتابة لك تعني .. زخم السطور التي تختصر في جملة أنطقها على الهاتف:

’كيف أنت؟‘

أنت لا تعلم جملة ’كيف أنت!‘ كيف تكون محملة بمعاني أبعد، وأشمل، وأعمق من السؤال عن الحال..

فهي كجرة حبر اِنسَكَبَت على معجم اللغة فساحت المفردات بمعانيها، وتصاريفها النحوية ببعضها ..

قد تعني:

أنا أهتم بك ولأمرك .. لجدك وهزلك ..

انشغالك وفراغك .. موسيقاك وابتهالاتك ..

لقد بلغني مرضك .. وخشيته كما خشيت صمتك الإلكتروني !

صيامك الهاتفي .. أبوابك المؤصدة التي تقرعها رسائلي ولا تفتح !

صندوقك البريدي الذي يُخيل لي بأنه أمام منزلك مكتظ بأظرفي البكر..


هات يدك لأكمل !

ياه .. يدُك تلك التي وصفتها سلفاً ’ذات المساحات الشاسعة

وديدي،  كان لابد لكَ أن تعرف ويدي بيدك بأنني أحاول أن أتصدى لمرضك بكل ما أوتيت من إيمان، بصلواتي، وبدعواتي، ومؤخراً بصيامي ..

كيف لي أن أشرح لك بأنني أتممت خمسة عشرة يوماً أصوم لأتحرى إجابة الدعاء في دعائي ..

وأنني أقطع المسافات بالطائرة، والسيارة لأنهي عمل ينتهي بهاتف كي أتحرى إجابة الدعاء ..

وأنني بتُ أستفيق في منتصف الليل لأبتهل أن يرفعَ عنك المرض، ويكشف ضرك، ويحفظك،وأجدني أدعو لك في قائمة تبتدئ بك وتنتهي بابنتك تلك الطفلة التي تقضم صورها قلبي ..

وأنني .. وأنني .. وأنني .. دون أن أنافقُكَ، ودون أن يفسدَ عملي رياءً ولا تجاب دعواتي ..

فليبقيك الله ليس لرسائل وحسب .. بل لكل شيء يعنيك أمره، لوالدتك الطيبة، لأسرتك، لمنزلك الأخاذ، لشركتك الناشئة، لاصدقائك الذين سبق وأن تحدثت عنهم كثيراً، لمحمد الأبله ، لعُمر المقيد بهوس سباق السيارات.

فليبقيك الله للحاضر و للمستقبل الذي سيهبك المزيد من الأطفال ..

للأيام التي ستأتي بدوني حتماً .. ولكن تضاء برسائلي …

كما أود الاعتذار عن قلة حيلتي في الاعتناء بك كما يجب، وكما ينبغي..

عن ذراعي المبتورة .. وحضني الأجوف ..

ويدي المغلولة .. 

وعن كتفي،وحرفي ..

كن بخير لأجلي ولأجل كل شيء ..

Join