حكـــــاية فريــــــضة - 2 -
الحج فريضةٌ يشد المسلمون الرحالَ لها كل عام من كل بقاعِ الأرض ، يطوفون ببيتِ ﷲ ويؤدون مناسكهم طمعاً في رحمةِ ربهم ، ويشهد عليهم كلُ من في السماوات والأرض.
بعد أن انهى إبراهيم عليه السلام بناء الكعبة جاءه أمر ﷲ تعالى أن يأمر الناس بالحج.
قال تعالى :۞وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ سورة الحج : 27.
فسأل إبراهيم ربه قائلاً : " يا رب ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟" – أي لا يصلهم - فأجابه ﷲ :" نادِ وعلينا البلاغ".
فقام على مقامه وقيل على الصفا ، ونادى في الناس : " يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه "، وخُفضت رؤوس الجبال ورُفعت القرى فبلغ صوته أرجاء الأرض وسمعه من في الأرحام والأصلاب وأجابوه " لبيك اللهم لبيك " ، فتمَّ وعدُ ﷲ لنبيه ، إذ يحِّن أهل الإسلام لرؤية لكعبة ويقصدونها من كل الأقطار.
ابتلاء ﷲ لنبيه بذبح ولده
لما شبَّ إسماعيل رأى والده إبراهيم عليهما السلام في منامه أنه يؤمر بذبحه – ورؤيا الانبياء حق - ، فسارع إبراهيم لامتثال أمر ربه وأخبر ابنه بذلك مختبرا عزمه ، فما كان من الابن إلا الصبر وأجاب راضياً " افعل ما تؤمر ".
قال تعالى : ۞ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ۞ سورة الصافات : 102
ولما امتثلا لأمر اﷲ ووضع إبراهيم ابنه على جبينه وشرع في ذبحه لم تقطع السكين شيئًا وقيل جُعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس وفداه اﷲ وأبدله بكبش ، وذُكر أن إبراهيم عليه السلام ذبح الكبش في أرض منى وقيل في المقام .
قال تعالى:۞ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۞ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۞ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۞ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ۞ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۞ سورة الصافات : 103 - 107
أصل مناسك الحج
إنَّ ما كان من إبراهيم عليه السلام من محبة ﷲ وطاعة وصبر على ابتلائه جعل ﷲ يخصه بمنزلة عظيمة ، وجعل لأهل بيته مالم يكن لغيرهم فكانت أفعالهم قدوة للناس وعبادات ﷲ ، فكان السعي من صعود هاجر للصفا والمروة ، والنحر من فداء ﷲ لإسماعيل بالكبش ، وأما التلبية فمن إجابة الناس لنداء إبراهيم عليه السلام .
واختلفت الروايات في أصل الرمي وبقية المناسك فقيل في رواية أن إبراهيم بعدما فرغ من بناء البيت ودعا ربه قائلاً : ۞ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ* ربَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۞ سورة البقرة 127 - 128
فأمره ﷲ ان يخرج إلى المناسك وقيل أنه بَعث له جبريل وعلَّم إبراهيم المناسك
كلها ولما وصل العقبة ظهر له إبليس ، فأمره جبريل أن يرميه ويكبر وفعل ، ثم ظهر عند الجمرة الثانية ثم ظهر عند الثالثة فرماه وكبر عندهما ، وأخذ جبريل إبراهيم لجَمْع – مزدلفة - ، فقال : هذا المشعر الحرام . ثم أخذه إلى عرفات . وقال له : قد عرفت ما أريتك ؟ -قالها ثلاث مرات – فيجيب إبراهيم : عرفت .
وذكر في رواية أخرى أن الشيطان ظهر لإبراهيم عليه السلام بعد رؤياه لذبح ابنه
ووسوس له في الرؤيا فلحقه إبراهيم حتى جمرة العقبة ورماه بسبع حصيات
حتى ساخ – أي غاص - في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فأعاد
الكرة، ثم ظهر عند الجمرة الثالثة وفعل المثل.
الحج والعمرة قبل الإسلام
حج المؤمنون في زمن إبراهيم عليه السلام ومن تبعه من الأنبياء إلى الكعبة حسب المناسك التي أُمر بها إبراهيم ، ولكن تلك المناسك تعرضت للتحريف عبر الأزمان مع قيام العرب بنصب الأصنام والأوثان الممثلة لآلهتهم حول الكعبة وانتشار الوثنية ودخول عبادة الأصنام إلى شبه الجزيرة العربية ، فسُمح للقبائل الأخرى بغض النظر عن دينها أو آلهتها، أن تحج إلى البيت العتيق.
ووضعت تشريعات عجيبة للحج فكان البعض يقف بمزدلفة بدلا من عرفة في حين كان آخرون يطوفون بدون سعي وكان بعض الطائفين يطوفون عراة ومنهم من يرتدي ملابس خاصة يقدمها لهم أهل قريش وكان البعض يحج صامتا .
ومن الشعائر الدينية في الجاهلية أيضا تقبيل الأحجار والأصنام ومسح الأجسام بها
تبركاً وتلطيخها بدماء الأضحية التي يتقرب بها للأوثان ، ومما زادوه في عباداتهم
الـمُكَاء والتصدية في الحرم وهما التصفيق والصفير.
قال تعالى : ۞وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً۞ سورة الأنفال : 35.
وكان أهل الجاهلية يعتمرون في رجب والبعض منهم يعتمر كل شهر عدا أنهم حرَّموا العمرة في أشهر الحج ويرونها من الفجور وقيل أنهم كانوا يؤدونها كما يؤدون الحج ، وكانا إذا أحرموا بحج أو عمرة يدخلون بيوتهم من ظهورها لا من أبوابها.
قال تعالى : ۞وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا۞ سورة البقرة : 189.
ومما يذكر أنه كان لكل قوم آلهة لها أماكن يقصدونها للزيارة والتعبد والحج
و تسمى (بيوت الآلهة) أو (المعابد).
العمرة في الإسلام
قيل أن رسول ﷺ كان يعتمر قبل الهجرة دون أن يُحصى اعتماره ، بينما ثبت أنه اعتمر بعد الهجرة أربع مرات ، فـعمرة الحديبية كانت في عام ٦ هـ ، رأى رسول ﷺ في المنام أنه يدخل البيت ويطوف به ويعتمر ، فسافر هو وأصحابه ولكن قريش أصرَّت أن يعودوا ذلك العام بدون دخول مكة وأن يعودوا العام التالي وكتبوا الصلح مع المسلمين، ولكن ﷲ تعالى كتب أجر العمرة لهم.
أما عمرة القضاء عام ٧ هـ هي العمرة التي اُتفق عليها في صلح الحديبية ووعد بها اﷲ تعال نبيه .
قال تعالى:۞ ولَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنّ لْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۞ سورة الفتح : 27.
وقد نص الاتفاق على أن تخلي قريش مكة من المقاتلين مدَّة ثلاثة أيام ، فكانوا يقفون على رؤوس الجبال يُشاهدون مناسك العمرة.
وأما عمرة الجعرانة كانت بعد رجوع رسول الله ﷺ من حصار الطائف ،وقد نزل الجعرانة وبقي بها بضع عشرة ليلة قسم خلالها الغنائم ثم أحرم بالعمرة وتوجه إلى مكة ، أما عمرته الرابعة فقد أحرم بها مع الحج في ذو القعدة وأتمها في ذي الحجة مقترنة مع الحج.