بروباغندا، بروباغندا
فخ مُكلّف
"دعوني أذكركم بأن المعلومات ليست معرفة، والمعرفة ليست حكمة، والحكمة ليست تبصراً، كل منها يثمِر عن الآخر ونحن بحاجتها جميعاً" السير أرثر.س.كلارك
مع الانفجار الهائل الذي نواجهه مع ذروة عصر الاتصالات والانترنت، نجد أنفسنا أمام مدٍّ هائلٍ من المعلومات لا حصر له في كل مجال وكل مناحي الحياة، يتخلله الكثير من الآراء الشخصية والنقل المغلوط هنا، وترجمة غير أمينة هناك، ونظريات مؤامرة وغيره مما نراه كل يوم على صفحات التواصل الاجتماعي المعبأة بأنصاف العارفين والمثقفين المزيفين. ليس هذا وحسب بل إن الإعلام وتطبيقات التواصل الاجتماعي يعتبران أداة سياسية وحربية في بعض المناسبات، يقول كريستوفر دِكي تعليقاً على البروباغندا التي انتشرت أثناء الحرب على العراق عام 1991 (مُشاهد التلفاز لا يريد أن يفكر، هذا ليس الهدف من التلفاز، بل هو مشاركة التجربة وأن تغمره اللحظة لا التفكير).
حيث انتشرت بروباغندا كاذبة من شاهدة في جلسة علنية بالكونغرس الأمريكي (أُثبت لاحقاً أنها تعيش في أمريكا، وقد تم تلقينها تلك الشهادة من قبل مؤسسة علاقات عامة كبيرة في نيويورك) أن الجيش العراقي في الكويت كان ينتزع الأطفال الخدج من الحاضنات في المستشفيات ويتركهم يموتون على الأرضية الباردة بعد سرقة الحاضنات، والتي تبين بشكل واضح لاحقاً أنه لم يحدث، لكن الآلة الإعلامية الأمريكية قامت باستغلال هذه البروباغندا، ويقال أنها انطلت على الجميع، منظمات حقوق الإنسان والصحفيون والسياسيون، بل وأضاف لها الإعلام وأعاد تكرارها ليتغير موقف الحكومة الأمريكية في حرب الخليج بعد ثلاثة أشهر، وتم على إثر ذلك تدمير ملجأ العامرية في بغداد بغارة أمريكية نتج عنها مقتل 400 من الأطفال والنساء، والنتيجة هي أن نجح تجّار الحروب كسب رأي المواطن الأمريكي في ضرورة غزو العراق رداً على الجرائم بحق الأطفال التي لم تحدث بقتل المزيد من الأطفال والنساء والمدنيين وربح الكثير من المال على حسابهم.
أرض المعركة
وهكذا يلعب الإعلام والسوشيل ميديا دور الملقن للمشاهد والمراقب، الذي لا يملك أسلحة دفاعية وفلترة فكرية أمام ما يطرح أمامه في كل دقيقة وكل ساعة، مما يتضمن التلاعب بالمشاعر وانتقاص المعلومات والحقائق الموجهة، المتهم في المسألة ليس الجهل وحده، فدائماً ما سنجد شخصيات متعلمة وقد انطلت عليها حيلة جهة ما ووقعوا في شرك الدفاع والمنافحة عنها لأسباب غير منطقية او صحيحة، عدا عن أن الآلة الإعلامية قد خلقت بداخلنا شهوة الإثارة التي لا تبرد، والتي تجعلنا نبحث عن كل ما هو جديد وغريب وكارثي لنتناقله في المجالس والمجموعات الافتراضية، حتى قنوات الأخبار الرسمية تحاول استغلال هذه الثغرة بتقديم عناوين صفحات بأسلوب مبهم وفضائحي أحياناً،فقط لتزيد عدد النقرات على صفحاتها.
الدفاع عن النفس
وفي خضم هذه المعركة المعلوماتية التي تخوضها الجهات المغرضة والجاهلة على حد سواء ضد الجمهور، يجد المتابع البسيط ذاته كطفل فقد أمه لا يكاد يثق بأي وجه، أو تنقلب به الآية إلى أن يبدأ بتصديق أغرب الترهات لأنها لا تشبه السائد، وكلا الوجهان متطرفان يفتقران للحكمة والحصافة، لديهما المعلومات ولا يملكان أدوات للربط بينها والحكم عليها. والحق أني عندما قررت كتابة المقال كنت أنتوي جعله دليلاً يفعّل ذاك الصوت في مؤخرة الرأس الذي سيعمل كخط دفاع أول ضد الهراء محذرا إيانا بأن شيئاً ما غير صحيح وأن علينا العودة والتحقق من هذه المعلومة أو على الأقل، أن نضعها في قائمة المشتبه بهم.
تُعرّف البروباغندا كمصطلح بحسب قاموس أكسفورد بأنها: معلومات، مضللة أو متحيزة بالخصوص، تستخدم للدعاية إلى وجهة نظر أو توجه سياسي.
أو بحسب صفحة www.propagandacritic.com. هي استخدام تقنيات تواصل لخلق استمالة عاطفية لقبول اعتقاد او رأي محدد، لاعتناق سلوك معين أو أداء فعل معين.
يمكننا أن نقسم تقنيات خلق البروباغندا الى ثلاث أٌقسام باختصار:
التلاعب بالكلمات:
- اطلاق المسميات ايجابية أو سلبية، ليجعل الشخص ينفر أو يخاف من شيء ما أو يحببه فيه.
- استخدام مصطلحات برّاقة (كالحرية والتدين الأخوة والكرامة والشرف والعدالة) وغيرها.
- استخدام الكلمات الملطفة لتهدئة الجمهور وجعل الواقع غير السار أكثر قبولاً.
- استخدام المفاهيم النمطية اما بتعزيزها او بتحطيمها لتوجيه رسالة ما.
الربط الخاطئ:
- من خلال الترويج لموضوع ما عبر سلطة عليا مثل (الرموز الدينية والعقوبة الإلهية والوطنية) لإقناعك بأشياء لولا ارتباطها بهذه المفاهيم لما قبلتها.
- عبر شهادة شخصية مشهورة أو خبير في أمر ما باعتبار أن مصداقيته تعتبر دليلاً كافياً على صحة المعلومات أو خطأها.
- الإحالة أو النقل، ربط مفاهيم إيجابية او سلبية لدى الفرد بفكرة ليس لها صلة بتلك المفاهيم.
استمالة المستمع:
- يقدم المتحدث نفسه كشخص يشبهك لتشعر بالتعاطف معه، حيلة مستهلكة يستخدمها السياسيون ورجال الأعمال والقادة ليجعلوك تثق بهم وتوافق على كل ما يقدمونه.
- عقلية القطيع، استمالة مجموعة من الناس عبر ترديد عبارات تتناسب مع توجهاتهم الدينية أو الوطنية أو العرقية، متوافقاً مع تحيزاتهم والأفكار المنتشرة بينهم.
- الانتقائية في نقل المعلومات، تقديم المعلومات التي تتفق مع الفكرة، وتجاهل المعلومات التي تتعارض معها.
شبكة الجيل الخامس
سأدرج مثالاً للبروباغندا لتكون الأشياء أكثر وضوحاً، بعد إعلان جائحة كورونا عالمياً بمدة قصيرة، انتشرت فيديوهات وتغريدات حول علاقة شبكة الجيل الخامس -التي أعلن عنها حديثاً في ذاك الوقت- بانتشار الفايروس، وهو ما وجدته أمراً مضحكاً جداً وقتها في الربط بين مستويين من الموجودات لا علاقة لهما ببعض، لكن الذعر أصاب الناس، وبدأ بعضهم من باب المبادرة في دول أوروبا بتدمير أبراج الجيل الخامس، وانتقلت هذه الموجة إلينا عبر الترجمة. ومع أن التقنية وصلت إلينا للتو وفي مدن محددة، لم يوفر أصحاب نظريات المؤامرة جهداً في تناقل المعلومات بلا تحقق ولا تفكير او سؤال لأي مختص، بل ظهرت مئات التغريدات والرسائل على تطبيقات التواصل الاجتماعي متهمة موجات الجيل الخامس بنشر الفايروسات.
تغذت هذه البروباغندا أساساً على الخوف والذعر الذي أصاب الناس من جراء انتشار الوباء، لذا أصبحوا يبحثون عن شيء يلقون عليه اللوم، إن جئنا الى تفنيد هذه البروباغندا فأسهل نقطة يمكننا البدء منها هي طبيعة الفيروسات كونها كائنات غير حيّة تنتقل إلينا عبر التلامس والاستنشاق، غير قادرة على الحركة أو التكاثر لوحدها ومن المستحيل بيولوجياً أن تحملها الموجات الكهرومغناطيسية كبساط الريح في الهواء لتنقلها بين الناس، والواقع والتجربة يقولان أنها تنتقل من إنسان إلى إنسان آخر بشكل مباشر أو غير مباشر. افتراض أن الفايروسات تنتقل عبر الموجات الكهرومغناطيسية، يفرض لزاماً أن الفايروس موجود في الهواء وإن لم يكن هناك بشر من حولك، تخيل نسب العدوى في هذه الحالة!
قالوا أيضاً بأن مدينة ووهان التي "يقال" أن الوباء بدأ منها، تتمتع بخدمات هذه التقنية واعتبروا أن هذا دليل دامغ على علاقة الموجات الكهرومغناطيسية بانتشار الوباء، لكنهم يتجاهلون عمداً المدن التي انتشر فيها الوباء وليس بها خدمات الجيل الخامس، ممارسين الانتقائية في نقل المعلومات بطريقة فجّة...
اشاعات الجيل الخامس المتعلقة بكورونا تم ربطها بالماسونية والعائلات اليهودية ورغبة الحكومات في القضاء على البشر، مقتاتين على كل ما يثير مشاعر الناس وخوفهم ويشل قدرتهم على التفكير المنطقي، بينما الحكومات تحتاج لهؤلاء البشر ونقودهم ونشاطهم الذي يبقي الاقتصاد حياً، بأي حال قد تم تفنيد أغلب الادعاءات حول ارتباط شبكة الجيل الخامس بأي شيء يخص الفايروسات، ومازالت تطبيقات التواصل الاجتماعي وعقول الناس تغص بالادعاءات والبروباغندا حول فايروس كوفيد-19 و اللقاحات (بعمومها) ومع أنها تفند كل يوم على صفحات التواصل الاجتماعي، إلا أنه يبدو لي أن تأثير البروباغندا أقوى وأكثر ارتباطاً و ثبوتاً في النفس؛ لأنها تعتمد على المشاعر والحيل الذهنية، مما يذكرني بالمقولة: "تسافر الكذبة عابرة نصف الكرة الأرضية، بينما لا تزال الحقيقة ترتدي حذائها".
بقلم: منى أحمد