حيـــــاة مؤجلــــــة
اكتب هذه المقالة كنوع من التطهير الذاتي، وسيلة للمسامحة والتسامح مع نفسي وعالمي، كخطوة أولى للعيش بشكل أفضل برغم هواجسي التي تلاحقني كأشباح منتصف الليل.
نجد أنفسنا نحن الذين لم نستطع للحياة سبيلاً تحت ضغط هائل من مرور الزمن والفشل المتكرر والشعور بالحصار ونقص الثقة بالذات في ظل الإهدار الانساني، والفساد وندرة الفرص … فأجد نفسي اضحك اشمئزازاً في كل مرة تمر علي عناوين مثل: "الأسرار السبعة للنجاح" "العادات السبع وأربعين للنجاح" "ماذا يقرأ فلان الثري كل عام، كتب مهمة للنجاح ... إلخ ... فقد صدعوا رؤوسنا بنصائح وارشادات وتوجيهات "النجاح" في كتب وجدت للاستهلاك التجاري، يزيد ثمن الورق الذي طبعت عليه عن محتواها المكرر غير المستساغ ... وكلها مستوردة، من ثقافة تضغط على أبناءها للعمل والنجاح وتحمل معاييراً عالية باسم الرأسمالية والتي نسخناها مع بداية القرن الحادي والعشرين بتأثير العولمة والاندماج الثقافي الذي وصل اليه العالم بفضل شبكة الانترنت...
أجدني اتصفح تويتر فتظهر لي تغريدات لنصائح من جيف بيزوس حول النجاح، أشياء مثل: خاطر، اجعل قرارتك سريعة، اشرب عصير خضار صباحا وحافظ على الرياضة ... هراء متكامل تطغى عليه صفة الكفاح، بينما جيف بيزوس لم يكافح اصلا ليبدأ مشروعه، وبدأه باستثمار من والديه بقيمة 250 الف دولار فقط، والموضوع يطول ان وصلنا للدعاية الرأسمالية الخادعة للكفاح التي تحمل صور أمثال بيزوس وتدفعنا للدخول في سوق العمل دون ضمانات حيث القوي يأكل الضعيف، وليس هذا بموضوعي.
المسألة هي ان الاشخاص من امثال جيف بيزوس ومارك زوكربيرغ وغيرهم من الذين بدأوا مشاريعهم واصبحوا مليارديرات او مليونيرات، قد رفعوا معايير الحياة لدينا نحن الطبقة المتوسطة، بل ان المعايير قد تبدلت، فالهدف الآن عال ومرتفع بعلو ناطحات السحب، الغنى والثراء الباذخ هو الهدف، لنكون سعداء، لنكون سعداء ونسافر مع الأصدقاء نركب اليخوت، نكون سعداء ونكتشف العالم ونهبط بالمظلات ونملك الفلل والقصور، نرى علامات هذا في كل اتجاه، السوشيل ميديا والمشاهير الذين ظهروا منها، الاعلانات، المسلسلات الخ... نريد باختصار ان نكون سعداء.
ودعني هنا اعترف بأني انا أيضاً اريد هذا الأمان الاقتصادي الذي يعدوننا به بالعصامية والكفاح ولا ضمانات للوصول اليه! ،بالمصادفة للتو، أشار أحد الاصدقاء إلى مقال على الدايلي ميل بأن دراسة أجريت في معهد ماستشوستس في العام 1972 وقام العلماء باختيار عشر عوامل لتوقع مسار الحالة الاقتصادية المجتمعية البشرية، منها التعداد السكاني والازدهار الاقتصادي والتلوث البيئي والثروات الطبيعية، بالمختصر ان جودة الحياة كانت في ذروتها عام 1940، ثم بدا الازدياد السكاني وزيادة التلوث والاستهلاك للثروات الطبيعية في العام 1980 وبدأت جودة الحياة تنخفض، ويستمر الانخفاض الى ان يصل الى نقطة الصفر مع ارتفاع هائل في نسب التلوث البيئي بحلول العام 2040 حيث سيبدأ الناس يموتون بسببه ويقل الغذاء وتنهار المجتمعات وربما تنشأ مجتمعات مختلفة بعدها.
لشخص مثلي هذه لم تكن اخباراً جيدة أبداً، عفوك يا سيدي انا مازلت أبدأ مشروعاً تلو الاخر ولم انجح بعد وأريد تكوين ثروة معتبرة قبل أن أشيخ لتسندني في سنون حياتي العجفاء، وهكذا تهديد يخرب كل الخطط والآمال وبحثي عن السعادة المؤجلة!
لكني اهدأ بعد كل هذه الخيالات المشؤومة بالدمار والنهاية لأعود الى الواقع، نحن كأفراد نعيش في العالم العربي، بشر عاديون لا نعلم الغيب ولا عندنا القدرة على تغيير الأنظمة والسياسات التي تؤثر على البيئة والبشر،ولا عندنا مراكز دراسات تنبه شعوبنا حول استهلاك المياه وتلوث المصانع والمخلفات البشرية وتبتدع لنا حلولاً وخيارات، ولا نحن الشعوب التي رَبتْ على الاهتمام بهكذا مسائل أصلا، نحن بالكاد نبحث عن ابجديات الاحتياجات البشرية بدون الكثير من التوقعات ثم نشغل أنفسنا عن كل هذا بالمتعة.
لا تحسب أيها القارئ الكريم أنني أقوم بتقريعك الان، بل أؤكد لك ان هذه الكلمات موجهة لي أولاً وأخيراً، لا بأس من بعض المتعة في حياة المرء، لكن كل شيء بحساب! ، حالياً ومع المعايير الجديدة التي خلقت تحت قبة النظام الرأسمالي، لن تكون سعيداً الا ان امتلكت المال والسلع، ونحن جميعاً نركض خلف هذه المعايير بلا توقف، يارجل أنا اشعر بالذنب عندما أمضي وقتاً مع ألعاب الفيديو واشعر ان هاجساً يتكلم في مؤخرة رأسي يجعلني كمن مسه شيطان! أريد ان اعود لعملي او لمشروعي او للشيء الذي اتعلمه الان وفوراً!
وسلوكي هذا لم يجعلني أكثر سعادة ولا أوصلني للقمة التي أبحث عنها، فأجدني ابدأ بجلد الذات على الكسل والفشل والتخاذل ثم امسك بتلابيب العالم وأبدأ بصفعه على الفساد والرأسمالية والانتهاكات حتى اتعب، ثم ... لا يوجد ثم، هذه دائرة من التعاسة بالنسبة لباحثة عن السعادة مثلي، ماهي السعادة اذا؟ وعندما أفكر بالأمر كنت دائماً ما أصل الى تلك النقطة التي ادرك فيها أنني اركض منهكة وأؤجل كل شيء على توقع ان اصل يوماً ثم اعود للانتباه لطعم الحياة، الذي اتخيل دائماً انني سأرشفه على شرفتي المظللة المطلة على منظر رائع أيا كان...
نحن ننسى، ان أيامنا هذه لا عودة لها، واننا نكبر مع الثواني، وأن من حولنا قد لا يكونون هنا غداً... ننسى أن نعيش بينما نحن احياء سعياً خلف هذه الأحلام التي ربما تتحقق، وان تحققت ونحن نهدر أنفسنا هكذا، فلن نكون أكثر سعادة مما نحن عليه اليوم...
لذا رسالتي الى نفسي، هي عيشي ريثما تحاولين الوصول، لا بأس بالحلم والمحاولة بجد، لكن تعلّمي ان تقدري اللحظة الحالية، كوني سعيدة الان، لتكوني سعيدة غداً عندما نصل.
بقلم: م.ب
رابط الدراسة : https://www.dailymail.co.uk/sciencetech/article-9788957/MITs-1972-prediction-collapse-society-track-happen-2040-study-reveals.html