عن الحنين، وزمن الطيبين..
الحنين يُكسب الأشياء معنى. يضاعف قيمتها على نحو عجيب. الأغنية القديمة ممتازة لأنها قديمة. شطيرة الفلافل تلك مميزة لأنك كنت تأكلها قبل عشرين سنة. زمن "الطيبين" هو "زمن الطيبين" لأنه مضى وانقضى وصار ذكرى تسلّي الملول وتهدئ من أزمة منتصف العمر.
يأنس الإنسان بذكرياته. ينحاز تجاهها. بل ويألفُ المرء من يحمل ذات ذكرياته، وكأن الذكرى المشتركة، عُرى وثيقة تربطه مع من لم تربطه به سابقة معرفة. هل تُشعر تلك الألفة بين المرء وذكرياته الإنسان بالأمان؟ أم أن النوستالجيا تساعده على أن يعرِف نفسه ويُعرّف عنها؟ على الأرجح أن الأغنية القديمة ليست بتلك القيمة. وأن زمن الطيبين كان فيه أشرار. وأن شطيرة الفلافل تلك لا تختلف كثيراً عن شطيرة الفلافل التي بوسعك أن تتناولها اليوم. ربما تضاعف سعرها فقط بفعل التضخّم أو أن طاهيها قرر أن يقلل من مقدار البقدونس.
هذا الحنين المبالغ فيه للماضي. تلك الهالة التي يُكسو بها الناس ذاكرتهم وذكرياتهم. ذلك المتحف الذي ينشؤه المرء ويعلّق فيه ذكرياته بمنتهى الحرص. كل ذلك يستدعي تساؤلات متتالية. هل لتلك الأشياء والأماكن والشخوص كل تلك القيمة؟ أم أن الحنين إليها هو ما أكسبها ما نشعر به تجاهها؟ ماذا لو فقد الإنسان ذاكرته؟ لو نسي ذكرياته أو انقطع حنينه إليها؟ هل يخسر ذاته حينها؟ هل لا يكون المرء نفسه وقتها؟
لعل الإنسان مجموع ذكرياته، فإن فقدها فقد ذاته. لعله لذلك يحن إليها، يقدّسها، ويزورها بين فينة وأخرى.