أنت ولذائذ الحياة!

عن الشعور بالنقص، والجاكوزي، وأشياء أخرى..

إذا كنت من الأغنياء فاحشي الثراء، فعلى الأرجح أنك استنفدت كلّ لذائذ الدنيا. ولذائذ الدنيا -بالمناسبة- محدودة. بعد استنفادك لكل تلك المتع، فعلى الأرجح أنّ لديك ثلاثة اختيارات.

الاختيار الأوّل هو أن تبدأ في الإعادة. والإعادة حتماً ولا بد ستفضي إلى الملل، وذلك لأنك عزيزي الإنسان كائن ملول. ولو قُدّر لك أن تجمع كل مال الدنيا فإنك لن تستطيع أن تشتري ألا تكون ملولاً، ويالها من مفارقة. ربما تبدأ في المكابرة. تقنع نفسك أن تلك الشهوات التي تركض وراءها وتنغمس فيها ما زالت تحمل تلك النشوة الأولى. ربما تبدأ في المباهاة وتستمد من ذلك شعورك باللذة. تتباهى أمام غيرك من المحرومين بلذائذك تلك وتنتابك لوهلة لذة الشعور بتميزك عنهم وأنهم محرومون من تلك اللذائذ، ثم لعلّك تختم مسلسل تباهيك بأن تؤكّد، لك أولاً ثم للمحرومين من حولك، أنك متواضع، وزاهد، وأن بوسعك أن تفعل أكثر مما فعلت، وتسرف أكثر مما أسرفت، وتنفق من المال أضعاف ما أنفقت. دائماً يا صاحب المال بوسعك أن تنفق أكثر. دائماً بوسعك أن تحدّث نفسك بأنّ هناك اختيار آخر كان من الممكن أن يكلّفك أضعاف الاختيار الذي اخترته. تلك معلومة صحيحة لكنها مغالطة منطقية، ذلك أن وجود ذلك الاختيار الآخر لا يعني صحة اختيارك أو منطقيته أو جدواه.

الاختيار الثاني الذي بوسعك أن تختاره عزيزي الثري هو أن تنفق مالك الذي تعبت -أو لم تتعب- في جمعه، في شراء أشياء لا قيمة لها. لا يا عزيزي، هذه ليس غلطة مطبعية. سيحاول باعة الوهم أن يجعلوك تقدّر قيمة أشياء لا قيمة لها. لا تحتاج إليها قطعاً، ولن تضيف لحياتك مليماً واحداً من السعادة إن كانت السعادة تقاس بهكذا وحدة. سيحاولوا بيعك ساعة بمئة ألف، ونظارة بعشرين ألفاً، وحقيبة جلدية بخمسين ألفاً. ستجد نفسك في مطعم تنفق ألفين على وجبة واحدة. سيحملوك (أو يحملوا إليك) سيارة بمليون. سيبنوا إليك قصراً بعشرات أو مئات الملايين كأنك لن تموت وتتركه. سيوهموك أن لهذه الأشياء قيمة. ولأن لديك الكثير من المال، والقليل من الإحساس بالمسؤولية تجاهه، ستبتاع كل ذلك، ثم ستجد الفراغ ذاته يملؤك. السأم من جديد، والبحث عن لذة أخرى لتنالها أو لتنالك. كنت أعتقد أنني لا أفهم كيف من الممكن أن تصل السذاجة بالإنسان ليفعل ذلك. كنت أعتقد أنني سأموت قبل أن أكتشف السر. لكنني أعتقد أنني اكتشفته. لعلها ليست سذاجة. لعلّه ذات الشعور الذي يطارد المحروم. الرغبة في سد النقص الذي يشعر به المرء ويحرّك أفعاله. "التوهّم" بأن لتلك الأشياء قيمة، يضفي قيمة "وهمية" إلى حياتك. أتعتقد -يا ثريّنا الغبي- أن مالك قد يبتاع "قيمة" لك؟ قد يضفي على حياتك المزيد من السعادة؟ أنت تجهل إذن أن للسعادة قوانين مختلفة. السعادة لن تكون يوماً في حقيبة بخمسين ألفاً. ستألفها. ستعتادها. ثم ستسأمها كما سأمت ما قبلها، وتبحث عمّا يليها. ألم تتعلم الدرس بعد؟!

أمّا الاختيار الثالث، فإن استنفدت كل اللذائذ (ألم أقل لك أن لذائذ الدنيا محدودة؟) ولم يبق لك ما تفعله، فلعلك تبحث عن سدّ ذلك النقص في شيء مختلف تماماً. تتبنى قضية سياسية، أو ترشح نفسك للمجلس البلدي (أو للبرلمان إن كنت في بلد يسمح لك بذلك). ربما تصبح نباتياً أو مدافعاً عن حقوق الحشرات، وربما تبدأ في إنشاء اتحاد الـ(ستار قايزرز)؛ أولئك الذين ينظرون للسماء ويعدّون ذلك هواية ممتعة. وربما، في سن متأخرة من حياتك، تكتشف حقيقة مختلفة كنت تجهلها. تكتشف لذة العطاء، وتدرك أن هناك سعادة متجددة في إدخال السعادة للقلوب التي حُرمت منها. كأنّ تلك القلوب ترد إليك الجميل بمنحك شيئاً من السعادة التي منحتهم إياها!

ماذا لو لم تكن من الأغنياء؟! ماذا لو لم تكن لذائذ الدنيا مبسوطة أمام ناظريك لتختار منها ما تشاء؟ على الأرجح أنّ لديك اختياران.


الاختيار الأول، وهو الأكثر شيوعاً بالمناسبة، أنك ستدخل في دوّامة مطاردة اللذائذ، لذّة تلو لذة، بحسب مقدرتك. كلّما جمعت شيئاً من المال أقنعوك أن بوسعك صرفه في تلك المتع العظيمة التي يتمتع بها الأثرياء (وفي الحقيقة هم قد ملّوا من تكرارها) وحُرمتها أنت. دائماً ما ستشعر بالنقص، وأنه يتبقى لاكتمال سعادتك لذة إضافية واحدة. ستطارد ذلك الشيء الإضافي، ثم ستقع في شراك الشيء الذي يليه، ولن تتوقف حتى تلقى حتفك، وأنت ما زلت تشعر بالنقص، وبالفجوة التي بينك وبين السعادة، أو على وجه الدقة، بالفجوة التي بينك وبين الأثرياء.  بين صورهم الانستگرامية البهيّة.

ستحاول التشبّه بهم بكل ما أوتيت من عزم. ستطارد الصورة التي رُسمت لك. ربما يرّن في طبلة أذنك بيت شعر السهروردي (فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم .. إن التشبه بالكرام فلاح). سيغيب عنك أنّ الـ"كرام" الذين قصدهم الشاعر ليسوا الأثرياء على الأرجح، بل كرام الخلق. دعني أخفّف من حدّة ملامتي لك. لقد وُجِدَت في زمن صعب. زمن مجنون إن أردتُ الدقة. زمن "مكشوف" إن أردت منتهى الدقة. كل شيء بات مكشوفاً لكل أحد. أنت تنظر إلى قصعتك صباحاً، بعد أو قبل أن تنظر إلى قصعة ابن خالتك الذي يأكل البيض المطهو بالطريقة الفرنسية في شارع من شوارع باريس وسعادة كاذبة (أو على الأقل مبالغ فيها) تملؤ محيّاه. تذهب إلى عملك فتسمع عن حفيد مؤسس الشركة الذي يقضي إجازته في وجهة سياحية لم تسمع بها من قبل (لأن المسكين يبحث عن لذة أخرى جديدة ليشبع بها نقصه). سترى مقطع الفيديو الذي سيزيد من إحساسك بالنقص أو سيرفع من طموحك (سمّه كما شئت). لن تعود إلى المنزل قبل أن ترى يوميات العشرات من معارفك وغير معارفك حول العالم. ألم أقل لك أنّه زمن صعب؟ مجنون؟ مكشوف؟ قلت لك لكنك على الأرجح نسيت.

ستطارد اللذات أو أنها ستطاردك. هل جمعت من المال شيئاً ما؟ هل تشعر أنك بحاجة إلى أن تصرف هذا المال؟ هل تريد سد النقص من جديد؟ قطعاً أنت تشعر بذلك. ولأنك تبحث عن لذة أخرى لتبتاعها، فإني أقترح عليك اقتراحاً. سيقترحه عليك آخرون بالتأكيد. سيقولون لك، لم لا ترفّه عن نفسك و"عيالك" (وهذه من أعتى الأسلحة التي يستخدمونها لأنك لا تريد لمن تعول أن يكونوا في حالة نقص) وتذهب إلى المنتجع؟ "المنتجع" يا سيّدي الكريم هو المكان الذي رُصّت لك فيه المتع لِـ"تنتجع" بها. ستدفع مالك هناك لتأكل ما لذّ وطاب وتسترخي على أريكة مريحة في غرفتك المطلّة على منظر جميل. أأعدّد لك صنوف المتع؟ أأخبرك ببعض تلك المتع المنتجعية التي على الأرجح أنّك لا تعرف عنها شيئاً؟ اسمح لي أن أفعل. إذا كان المنتجع بحرياً، فبوسعك أن ترتاد البحر. وبوسعك أن تدفع المزيد من المال الذي تعبت، على الأرجح، في جمعه، لشخص يدّعي أنه سيمنحك الفرصة لتمارس "الرياضات البحرية". تلك الرياضات التي لا تنتمي للرياضة بصلة. سيعلّقك مثلاً في الهواء، أو يرميك من شاهق، أو يجعلك تركب قارباً على شكل موزة ويلقي بك بين الأمواج الفتّاكة، والمفترض أن تستمتع أنت بهذا الجنون لأنّ غيرك يستمتع به أو يوهم نفسه بذلك. أوَ تدري ما الأدهى والأمرّ؟ الأدهى من ذلك تلك المتع المخبوءة في "النادي الصحي" الذي لا يمت للصحة بصلة. ستدخل غرفة يسمونها غرفة البخار (على الأرجح أنّ اسمها سيكون "ستيم روم" لأنها بذلك تبدو أرقى). ستدخل غرفة درجة الحرارة فيها انتحارية. بخار الماء يملؤ المكان حتى لا تكاد تستطيع رؤية الشخص المجاور. سيطلبوا منك الجلوس في هذه الغرفة لدقائق متطاولة. ما الهدف؟ لست تدري، لكن المفترض أنّك تنشد المتعة! أو أنّ الهدف صحي لأننا في الـ"نادي الصحي". أو أن الهدف هو أن تخسر جزءاً من جسدك/وزنك الذي تعبت في بناءه. لست أدري بالتحديد، لكن فضلاً استمتع. جرّب متعة أن تعذّب نفسك بهذا البخار الحار حتى تنتابك الرغبة في أن تخرج من جلدك. سيمتزج البخار المتكثف على جلدك بالعرق. ستبدأ بالتساؤل عن جدوى ذلك كله من جديد. لكنه الـ"منتجع". الـ"نادي الصحي". المتع التي لم تختبرها بعد. بعد أن تقضي هناك دقائق كالساعات. ستخرج لتدخل غرفة تعذيب أخرى اسمها غرفة "الساونا". هذه الغرفة ساخنة هي الأخرى لكنّها بدون بخار. هناك أحجار ساخنة تبثّ سخونة نارية في الأجواء. هناك كراسٍ خشبية موزعة ليجلس عليها المعذّبون. يعترمك تساؤل عمّا إن كانت غرف كهذه تستخدم في السجون غير الإنسانية لنزع الاعترافات من المساجين. ثم تتساءل عن السبب في تعذيب العقلاء لأنفسهم. تلبث دقائق أخرى في تلك الغرفة تطارد متعة تجهل كنهها قبل أن تخرج لتغتسل وتدخل الـ"جاكوزي". بطبيعة الحال أنت تجهل ما الجاكوزي. لو سمعت اسمه خارج أسوار هذا المنتجع لظننته أكلة قادمة من الشرق أو اسماً لمطعم. سيتبين لك أنه مجرد حمام سباحة ماءه ساخن أيضاً. أرجوك لا تسألني عن العلاقة بين الحرارة والرقي فأنا مثلك أجهلها، أجهل لماذا الستيم والساونا والجاكوزي والقهوة كلها أشياء ساخنة. المفترض أن يقوم الماء الدافئ المندفع بقوة من تلك الصنابير بإسعادك وإكسابك قدراً من الاسترخاء. إذا شعرت بالملل فإني أنصحك أن تلتحف منشفتك وتغادر المكان من فورك. أخشى إن لم تفعل أن يأتيك من يدعوك لأخذ المزيد من مالك مقابل أن يحمّمك. نعم، لقد قرأت الكلمة بشكل صحيح. يسمونه "حمّام". ستستلقي بينما يقوم مفتول العضلات والشوارب بدلكك بمنتهى القوة. سيعذّبك بدعوى تنظيفك. وأن أغدقت عليه المزيد من المال، فسيقوم بالضغط على كل عظمة ولحمة في جسدك في طقس يسمونه في تلك الأماكن "مساج". بينما يمارس عليك ذلك الرجل الغليظ ساديته ستتساءل إن كان من المروءة، فضلاً عن أن يكون من الأدب والعقل ابتداءً، أن تفعل ما تفعل.

ما الاختيار الثاني إذن؟ ما الاختيار الثاني الذي بوسعك أن تختاره إن لم تكن من الأغنياء؟ الاختيار الثاني هو الأقل شيوعاً، والأصعب على النفس. الاختيار الذي لا يُلَقَّاهُ كلّ أحد، ولا يسلك سبيله إلى من دانت له نفسه وعزّت عليه في آن واحد. الاختيار الثاني أي قارئي العزيز هو التحلّي بخلق "الاكتمال الذاتي". أهوَ ذاته القناعة؟ القناعة التي قالوا عنها قديماً أنّها "كنز لا يفنى"؟! لعلّ الاكتمال الذي أعنيه جزء من القناعة. أو أنّ القناعة جزء من الاكتمال. أو أنّهما الشيء ذاته. على كل الأحوال، الرجل (أو المرأة حتى لا أوصم بالذكورية) الذي قال أنّ القناعة "كنز لا يفنى" عبقري. وصفها بما هي أهله. هي فعلاً "كنز" لأن لها قيمة عالية، و"لا يفنى" لأنه لا يُحيجك إلى كنز آخر سواه، كما في كلّ لذائذ الدنيا.


عبدالعزيز عثمان © ٢٠٢٠ جميع الحقوق محفوظة

Join