تتصرّم الأعوام…
تتصرّم الأعوام..
نقف قبالتها كسائحٍ يجلس في محطة القطار. يشرب قدحاً ساخناً من القهوة، وربما يمارس نشاط أكل الفصفص، الذي هو نشاط للفم أكثر من كونه غذاء للمعدة. يمر القطار تلو القطار، والسائح يتفرج. في لحظة ما، سيأتي من يحمله، ويرغمه على ركوب القطار. السائح أهبل. يظن أن القطار الذي سيقلّه بعيد جداً. يظن أنه لن يأتي على الأرجح إلا بعد انتهاءه من عدة أقداح من القهوة. مغفل. مغفل والله!
تتصرّم الأعوام..
نقف قبالتها كمسافر ذهب للمطار. في كل لحظة يُنادى على أحدهم للركوب. يعلم المسافر أن موعد إقلاع طائرته قريب، لكن أحداً لم يخبره متى بالضبط. هو لا يريد التفكير في السفر، لأن المطار فاتن. لذا هو مشغول بالتسوّق. يعرف أنه لن يأخذ شيئاً مما سيشتريه من أسواق المطار المذهلة. يعرف أنه سيترك كل شيء حين يُنادى عليه، حيث أنّ عليه أن يركب الطائرة مجرّداً من كل شيء، لكنه على الرغم من ذلك، يشتري، وبنهم. مغفل. مغفل والله!
تتصرّم الأعوام..
نقف قبالتها كمتفرج في ملعب كرة قدم. كلّما دخل هدف، قفز فرحاً. تهلّل وجهه، وخرجت صرخات السعادة من حنجرته. يعد الأهداف. لكنّه يتناسى حقيقة واحدة يعرفها جيّداً. ذلك أّنه مهما جمع فريقه من هذه الأهداف، فمبجرد أن يطلق الحكم صافرة النهاية، سينتهي كل شيء. ستختفي هذه المباراة، بأهدافها الزائفة. بلاعبوها الذين اعتقد أنهم مصدر سعادته. لعلّه أصلاً سينساها بمجرد خروجه من الملعب، إلى الحياة الحقيقية التي اقتطع منها ساعتين لهذه المباراة. المباراة الفاتنة، التي ألهته عن حياته الحقيقية. مغفّل. مغفّلٌ والله!
تتصرّم الأعوام..
نطارد سرابها، بدلاً من أن نطارد ماءها. ربما لأنّ السراب ظاهر، والماء مدفون في قاع البئر. لكن السراب، وإن كان يبدو قريباً وسهل المنال، غير موجود، والماء، وإن حُجب عنّا، وبدا صعب المنال، موجود. أفلا نكون مغفّلين إذا انشغلنا بالسراب عن الماء حتى نموت من العطش؟!
تتصرّم الأعوام..
ونعلم يقيناً أنها ستنتهي يوماً ما. لكننا لن ننتهي بنهايتها. سننتقل. إلى حيث الأخرى. الأرحب. اللا منتهية. لن نحمل معنا كوب القهوة الذي ظننا أن القطار سيمهلنا لشربه. لن نحمل معنا الملابس التي ابتعناها من أسواق المطار. لعلنا لن نذكر فرحتنا بالأهداف التي أحرزها فريقنا الذي منحناه تعاطفنا في تلك المباراة. شيء واحد هو الذي سنحمله. شيء واحد فقط. على وجه الدقة، هو الذي سيحملنا. شيء واحد سيكون بساطنا السحري حينئذ، وبقدر اجتهادنا في صنعه في هذه الفرصة التي مُنحناها، بقدر ما تكون سرعته وعلو تحليقه يومها. شيء واحد، سيسبقنا إلى هناك. سيستقبلنا، وكل ما نرجوه أن يقول لنا يومها: نعم ما اشتريت! خير ما استثمرت! يا حافر البئر! يا صانع البساط! ذكي أنت! ذكي والله!