عن تلك الفئة التي طفح منها الكيل!
فئة من الناس عجيبة. لم يرُوى لنا مثيلٌ لها في التاريخ أو شبيه. ظهرت مع ظهور هذه الأقنية التي تطفح بالأقنعة، والتي أطلق عليها الناس اسم "شبكات التواصل الاجتماعي" وهم قد أصابوا في تسميتها بذلك أيّما إصابة. ذلك أنها "شبكات"، والشبكة دهليز يقع فيه المرء فلا يخرج منه، وهذا الدهليز هو بغرض "التواصل"، والتواصل فعل محدود يُكتفى فيه بأن يلمس طرف طرفاً آخر، وذلك التواصل هو مع المجتمع ككل، بل مع كوكب الأرض بأسره، فكرةٌ كان ليكون مجرّد ذكرها ضربٌ من جنون قبل عقود قليلة ماضية.
أقول أن تلك الفئة العجيبة من الناس هي فئة الـ"مبتسمين". ألا تعرفهم؟ ألا تشمئزُّ منهم كما أفعل؟! ألا تراهم كل ساعة من ليل أو نهار، تسقطُ فيها في براثن تلكم الشبكات، حيث ما إن تفتح صفحتك حتى تجدهم يقفزوا لك في أعلاها مبتسمين؟ ابتسامتهم واسعة جداً. أسنانهم تنضح بياضاً كالزمرّد. سعداء باستمرار. لا يشوب حياتهم شائبة ولا يعكّر صفوها نقيصة. هم السعداء. المترفون. المنعمون. شاربوا القهوة. الذين يمارسون التشافي، ويتظاهرون بالاكتراث لما إذا كان الوقود أحفورياً أم غير أحفوري. هم ذاتهم الذين يتابعون أخبار العملات الرقمية، ويأكلون الجمبري بالشوكة والسكين، ويتصورون صورة تظهر فيها أنفسهم وهو يتصورون! تصوروا أن وصل الجنون بفئام من الناس إلى أن يحملوا هواتفهم ويتظاهروا بالتصوير ليلتقط لهم سواهم صورة وهم يفعلون هذا الطقس العجيب. ماذا سيكون موقفنا لو زارنا مخلوقٌ من كوكب زحل ورأى صنيعنا هذا؟ ماذا عن كائن فضائي من عطارد يريد أن يتعرف على أهل الأرض؟! أيليق بنا هكذا سلوك؟! لا يا إخوتي الأرضيون، صدقوني، لا يليق!
أقول أن تلك الفئة التي قد طفح كيلي منها، هم أولئك الذين يجيدون تحويل أي حدث إلى فرصة للتبسّم، سواء كانت الصورة التي يلتقطونها في جبال الألب أم في حديقة الحيوان. الحيوان! ما أجمل الحيوان! ما أمتع صحبته! يا للجمال! يا للروعة! يا للإيجابية! يا للطاقة التي تشع من هذا المكان! فلنبتسم بهذه المناسبة السعيدة! ولنغمر الدنيا بسمة وتبسماً!
يتساءل المرء حين يبصر هؤلاء، من الذي افترض أنّ على المرء أن يشقّ خديه ببسمة عريضة لا يتسع لها وجهه، كلما قرر أن يتصور؟! من الذي طلب من المرء أن يحشر نفسه في كل صورة من الصور؟! لم لا يُصور الإنسان الحيوان، بدون أن يكون هو في الصورة؟! أو لم لا يصور نفسه مع الحيوان إيّاه بدون ابتسامة ساحقة ماحقة؟! ليس عليه أن يكشّر عن أنيابه، ويتلحف الحزن، بل يكفيه أن يكون على سجيّته، ضاماً شفتيه كما يفعل معظم ساعات النهار.
تغمرك هذه التساؤلات وأنت في دهاليز تلك الشبكات التي من المفترض أنها أُعدّت للتواصل، بيد أنها تحولت إلى أداة لسلب تركيزك (وبيعه للمعلن الذي يدفع أكثر)، وسحل همتك، واستلابك من ذاتك. غدت "شرٌ لا بد منه"، وهل إلى خروج منها من سبيل؟!
تنهض بعد هذا الطوفان من الأفكار إلى أقرب حائط، وتشق وجهك بابتسامة لا تتحملها وجنتاك، لتمارس الطقس القميء إيّاه، وترفع صورتك الباسمة على كل شبكة من تلكم الشبكات، فلا ينبغي للحفل أن يفوتك ولا للقطار أن يتعدّاك.
#مذكرات_رجل_منفسن