التعامل مع المشاعر الإنسانية،الدراما الإنسانية ، بأقصى قدر يمكنني أن أجربه
التجلي في التجريد
…
سوف تتفاجأ عندما تعلم أن الإنسان يمارس الفن بطبيعته خلافاً للتصور السائد الذي يعرف بأن الفن مجموعة من الأعمال والنشاطات التي تعبر عن مشاعر معينة أو مهارات فنية متطورة، زرت في مطلع سنة 2020م الفنان السعودي ابن الأحساء الأستاذ/عبدالرحمن السليمان وهو أحد أهم رواد الفن التشكيلي السعودي و الذي أمضى أكثر من 40 سنة في هذا المجال سطر فيها الهوية السعودية بصور عصرية راقية .
و في أثناء حديثي معه عن الفن وطبيعته أشار إلي ببعض الكلمات التي كان لها صدى في أذني لم أنسى معانيها ، عبر من خلالها عن طابع جميل وفلسفة راقية في رؤية الفنان للأشياء وهو يقول (عندما ترى شخص من بعيد تجد صفات مميزة فيه من طريقة مشيته وحركات يديه و أسلوب حديثه وهذا فن بحد ذاته) والمراد أن لكل شخص حالة فنية تعبر عن إبداع بشري فريد من نوعه وهذا ما يعيدنا إلى أن الفن حالة تعبيرية عن المشاعر بأي شكل من الأشكال.
الإنسان ذو البعد الواحد
استقلالية شخصية الفرد أصبحت في غاية الصعوبة،سيطرة الثورة الصناعية و الدول الحديثة على المجتمع وغيرها من سياقات دينية أو فكرية موروثه، مما أظهر نماذج موحدة للتوقعات والتصرفات ضمن إطار إجتماعي محدد يراعي فيه مواكبة حدود ثقافية معينة، أصبحنا معلبات مغلقة ذات محتوى واحد، وهنا يكمن الخطر في تعقيد البشر لفكرة التعبير عن ذواتهم وشخصياتهم و التي تمثل عصب الفن من خلال خلق مساحة كافية للحرية الفكرية حول هذا الكون من ما يحتويه من مكونات بلا قيود أو شروط.
روثكو و التجلي في التجريد
من خلال اطلاعي على الفن التشكيلي وتطوراته منذ عقود على مختلف المراحل وحتى يومنا الحاضر ، وجدت أعمال الفنان الأمريكي (روثكو) خارجة عن المألوف.
ولد (ماركوس روثكوفيتز) في عام 1913 م لعائلة يهودية في مدينة دفينسك الروسية، هاجرت عائلته إلى بورتلاند-أوريغون في الولايات المتحدة ،كان روثكو طالب متفوق و حصل على منحة دراسية في جامعة (ييل) وبعد دراسة دامت سنتين ترك الجامعة وانتقل إلى مدينة (نيويورك) ليبدأ مشواره الفني ، درس تحت يد الفنان ماكس ويبر وهو من أوائل الفنانين التكعيبين في أمريكا ، في بداية مطلع الثلاثينيات بدأ روثكو أعماله الفنية متأثرة بالفنانين أمثال ماتيس و ميلتون أفيري وبعدها بسنوات عديدة في منتصف الأربعينات خاض بعض التجارب لعدة مدارس مثل السريالية والتكعيبية والكلاسيكية ، مع التطور الفكري لروثكو ومجموعة من الفنانين ،بدأ حركة تنادي بعدم اتباع لما هو تقليدي بل يعتبر ذلك من عدم المسؤولية ، و في عام 1943م كتب روثكو وصديقه أدولف جوتليب في صحيفة نيويورك تايمز الآتي:
لا توجد رسمة جيدة عن لاشيء ...نحن نفضل التعبير البسيط للفكر المعقدة
سعى روثكو لإيجاد تلك الفكرة البسيطة ،ومع مرور الزمن بدأت تتبلور توجهاته التي ظهرت جلية في أعماله حتى انتهى به المطاف عام 1947م برسم لوحة تجريدية بالكامل واستمر على هذا النمط حتى توفى في عام 1971م منتحراً بسبب تفاقم الاكتئاب والعزلة ومن ثم أخذه لجرعة زائدة من المواد المخدره وقطع كبير في الشريان في ذراعه اليمنى بشفرة الحلاقة.
كانت الفكرة من الوصول لهذه الدرجة من العمق كما هو ملاحظ في ابتعاده عن الأشكال الهندسية وأي صلة تتعلق بتصور معين حيث كان يريد كما يقول
التعامل مع المشاعر الإنسانية،الدراما الإنسانية ، بأقصى قدر يمكنني أن أجربه
و عبر عن هذا النمط التجريدي على أنه
إزالة جميع العقبات بين الرسام والفكرة ، وبين الفكرة والملاحظ للوحة
تلك المستطيلات والمربعات الغير محددة في لوحاته والألوان القليلة المتداخلة فيما بينها ، تتفاعل مع العقل نحو صياغة حرية مطلقة للفكرة بحسب الدلالات الموجودة في الألوان.
باعتقادي وجد روثكو تلك المساحة للوصل المباشرة للمتلقي ملامساً فيها مشاعر البشر الحقيقة بعيدً عن التزييف