صُورة الوَلَد الخَلوق بأخلاقهِ

دراما لم تَكتَمل

التغيير واقع لا محالة أنت لست شجرة تموتُ حينَ تُقتَلع !

داغر الفيش

مرَّ بي قولٌ للحافظِ ابن حجر في فتح الباري يتناول فيه طُولَ الأمل وذمّه، فطالعته في تأمّل المُستسلم، وبالرغم من مطالعتي له في وقت سابق، إلا أنهُ في هذه المرّة صادف أنَّ في نفسي باعثاً يُريد أن يفتَعِل معيَ شجاراً، وبعد فراغي من النص، هبط عليَّ ألمٌ كدّر خاطري، وضيّق الدُنيا في عيني، حتى فاضت في الجنبات الكآبة.

ذلك أني تذكرت ما مضى من حياتي في شَطرها الأول، وعنايتي بعلم الحديث الشريف، و ولعي به و كَلَفي في صورة غير متخيّلة، فقد كان لهذا العلم مكانة لا تُحَدّ بحدٍّ، وقدر لا يُقاس بالمقاييس، ولو كان لأحد أن يطّلعَ على ما في نفسي تجاهه، لقالَ: إن هذا ليس من الحقيقة في شيءٍ لشدة غرابته.

وهو قريبٌ من وصف الخطيب في تاريخه، أنه سمع شيخهُ أحمد البرقاني في يوم يقول لرجل من الفقهاء معروف بالصلاح: ادْعُ اللهَ أن ينزعَ شهوةَ الحديثِ من قلبي، فإنّ حُبَّه قد غلب عليّ، فليس لي اهتمامٌ بالليل و النهار إلا به.

ولقد صحبت أمامُنا أحمد - بيض الله وجهه - في حياته عبر مطالعتي سيرته العطرة وهو الذي إليه المنتهى في العلم في وقته، ثم عشتُ و الأصحاب في حياته و بعد مماته، عرفتُهم وبلدانهم و أوطانهم، وفي الوقت نفسه أجدُني  أجهل أسماء بعض أقرابي ! أو أسماء أجدادهم، وأماكن بيوتهم.

فلو سألني سائل عن يحيى بن سعيد القطان - رحمه الله -  لوجد عندي جوابًا في غاية الإجادة.

وسأقول كذلك في ابن أبي ذئب و المُقبُري، وعدد ما شئت ممن كانوا قبلهم أو ممن جاء بعدهم.

ثم أتت مواقع التواصل هذه، فبدأت أتناول الحديث الشريف وكُتُبهِ وبعض المسائل المتعلقة به في تغريدات يومية، ورأيت أن العلم الشريف قدرهُ أن يكون في مكانٍ آخر غير هذا الذي أنا فيه صيانة له، فلا الناس تدري ما أقول وأكتب، فهم في مُعترك الحياة و شؤونها، ولا حَرَج، فقد كانت البلدان العربية في تلك الأيام فوقَ فوّهة بُركان، ثورة في أثر ثورة، والأفكار مشتعلة، والآراءُ مختلفة، والسجون ممتلئة.

بعد ذلك، قدّر الله أن ألتقي بجماعات الأدب العربي و العالمي، فخضت معهم في هذا الشأن خوض المشارك لا المتخصص كما في جميع أحوالي، فراقت لي الحالة، والقبول الذي أجده، و بمرور الوقت بدأ جلدي يَلين !.

في البداءة: كُنتُ أُطالعُ نتاج المحدّثين الأدبي، من سير و مقالات، وكان آخر ما قرأت في هذا مقالات العلامة المصري أحمد شاكر، و مقالات العلامة المحدِّث المؤرّخ محمد راغب الطبّاخ، بعد ذلك اقحمتُ نفسي حقولاً أُخرى، فذهبت أسماءٌ كالبزّار، و الدارقطني وابن سعد، وحضرت بدلا منها أسماء تعرِفُ و تُنكر، هنري ميللر، و تشيخوف، و غوانتر غراس، وغير هؤلاء الذين ذكرت آنفًا.




ًمالي ولهؤلاء الناس ؟ 

خُضتُ في هذا ما شاء الله أن أخوض، لا أقول أنني لم استفد من مطالعاتي الأدبية، والسياسية - وإن كنتُ اشتغلت بالسياسة قبل ذلك - ، والاجتماعية كذلك، فإنني أُشاهد أثر ذلك في لساني و قلمي، و معالجتي الأمور  و الحوادث، لكنَّ في القلب لوعة لازلت أكتوي بنارها، لا أدري ما الذي يُذْكيها !

هذا، ولا يليقُ بالمرء التقيّد بفن واحد، بل لابد له أن يتوسع في خدمة هذا العلم، وعلم الحديث فيه رواية و دراية، والدراية تحتاج إلى العربية و الأدب، ومعرفة البلدان وأحوال الناس وعاداتهم و تقاليدهم، فضلاً أن حامل السنة لابد أن يكون لسانه مُختلفًا.

 وعلى أيّة حال ..

ذهبت الدروس العلمية بمتونها و شروحاتها، وبقيتُ وحيدًا بين رجالٍ لا أعرفهم كالذين ذكرت قبل قليل، لا رابطَ يَجمَعنا في المعتقد أو الثقافة، وإن كان الشعُور بين البشر شعورًا واحدًا مشتركًا، و التعبير عن الحياة كذلك، لكنني وفي حالات كثيرة يُغيِّبُ عني هذا الفهم، وتظَلُّ نفسي تُقرّعني على إهمالي حق العلم الشريف، وانسلاخي منه، و إيغالي في التفاهات التي لا تليق بنفس المسلم كالرسم والموسيقى والروايات الأدبية، وهذيان بعض المتفلسفين، تقول لي: كيف و نحنُ في هذا الوقت الموحش المتوحّش ؟

صرت أتحاشى حين أدخلُ مكتبتي المرور بكتب الحديث، حياءً منها وخجلاً، أخشى أن يعاتبني ابنُ أبي شيبة - رحمه الله -حين أتجاوزهُ فيقول: مهلاً أيُها الرجل، أين أوقاتنا التي خلت ؟ 

أكتبُ الآن وأنا أتذكّر توقفنا في الطريق ذاهبين إلى الحج، لنزوّد السيارة بالوقود، وتأخري عن الرفاق، و مناداتهم لي بأصوات مرتفعة،وقد سمعت أحدهم يقول: لابد أن الشيخ تعثّر ووقع في خزانات الماء المفتوحة، وآخر يقول: أيكون أنه قد أُصيبَ بنوبة سُّكّر مفاجئة ؟ وبعد لحظات .. 

هأنذا أخرج من خلفِ حجرةٍ خَرِبْة، وفي يدي متن الموقظة للذهبي - رحمه الله - أُراجعُ حفظي منه !

فيقول أحدهم ضاحكًا: قاتل الله الحنابلة ما أبردهم، وكانَ مولعاً بمذهب مالك.

وأتذكّرُ: فَرَحي حين توفرت لي سلسلة الهدى و النور للعلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - وقتها كنت معتكفًا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذكر أنها جاوزت ٧٠٠ شريط ، عدتُ بها إلى الرياض، سالمًا غانمًا، مع عدد لا بأس به من الأشرطة الأخرى التي لا تخرج عن الحديث الشريف رواية و دراية، كدروس العلامة ابن باز  و العلامة ابن عثيمين - رحمهم الله - و العلامة عبدالله الغنيمان، وغير هؤلاء الذين ذكرت، أُنسيتُهُم الآن.



أذكرُ: حضور الدروس العلمية الحديثية و مجالس السماع التي جُدِّدت في عصرنا، كما جددها وأحياها قديمًا: السيوطي من سنة مات الحافظ أبو الفضل بن حجر - عليهم رحمة الله و رضوانه -  وأحيا سُنّة الإملاء قبل هؤلاء الإمام زين الدين العراقي. 

أذكرُ مجلِسًا ضمّنا و العلامة المرحوم عبدالله بن عقيل الحنبلي، قرأنا فيه ثُلاثيات الإمام أحمد، تلاها الشيخ عبدالمحسن العسكر في ثلاثة مجالس، فلما حان وقت تدوين الأسماء لكتابة الإجازة، توقفت ولم أكتب اسمي، لفكرة كنت أعتقدها في ذلك الوقت، وكم أنا نادمٌ الآن على سفَة عقلي حينذاك، إذ ما المانع في أخذ الإجازة للذكرى كالصور التي نلتقطها ؟

 فلا هي تُقبل في الوظائف و الأعمال ولا هي تُعلّق في المجالس لِتَثْلُمَ نيّتي ؟ ما أحمَقني.

و من المجالس التي لها ذكرى حسنة في نفسي، مجلس المحدّث عبدالعزيز الطريفي الذي كان في عام ١٤٢٤هـ ولم يكُن الشيخ في ذلك الوقت معروفًا لدى الناس، فقد كان المجلس لا يتجاوز عدد الطلاب فيه عن أربعة عشر طالبًا و مستمعًا.

ثم إن الشيخ ملأ بصري و سمعي، فقد وجدت فيه شخصية المحدَّث التي أجدها في الكتب، خاصةً حين يشرع في الرواية وما يصحبُها من سرعة في سرد الأسماء.

 كنتُ أُجِلُّ علماء الحديث دون غيرهم، ولا يعني هذا أني أُقلِلُ من قيمة الآخرين، إنما لهؤلاء شأنٌ خاصُ في نفسي، ومن هؤلاء العلامة المحدّث/ عبدالله السعد - أطال الله بقاءه - وفي هذا المَعْرِض حادثةٌ طريفة: حدثَ أنني التقيت بأحد طلاب العلم، أقول طالبَ علمٍ من باب التجوّز، وإلا فهو قاطع طريق، فلما ذكرت له أني أختلف إلى العلامة السّعد، قال: هو لا يفقه في العربية، ويلحن، من ذلك أنه سمعه يقول: عن - أبو هريرة - ولم يقل: عن أبي هريرة، فنظرت إليه نظرة قائمة على الاستخفاف و الصَغَار, أخذتُ أنظر إلى شعره - وقد كان من إحدى بلدان إفريقيا - مروراً بيديه و رجليه، نظرةَ مستحقر - أسأل الله أن يغفر لي -، ثم قلت له كلامًا لا يجوز ذكرهُ الأن ، فكاد أن يذوب خجلاً من الخجل الذي اعتراه، ثم علمت أنه ترك الطلب إلى شأن آخر.

ثم إن تركي الحضور عند المحدّث السَّعد، لموقف أزعجني حينها، ذلك أني أردتُ المشي بجانبه وكُنّا وحدنا، فتناولت يده ممسكًا بها، فرأيت الشيخ يتخلّصُ من يدي، في حركة لم تُرضني إلى ساعة كتابتي هذه كأني يدي يدُ متشرّدٍ غطّتها القذارة، فأقسمتُ ألَّا أعود له بعد هده الفعلة، لكنني عدتُ لحضور درسٍ بعد مدّة طويلة، و كنتُ ألتزمُ البُعدَ عنه و تحاشي النظر إليه، فعرفت أن هذه الحال لا تستقيم ولن تستمر، فخرجت من عنده إلى غير عودة.

ومن هؤلاء أيضًا: المحدّث/ عبدالمحسن الزامل - متّع الله به - وسبب معرفتي به، أنني كنتُ - ولا أزالُ - أنفرُ من الأمر الذي شاع بين الناس، وحدث ما شئت فيها هذا النفور وقس عليه في الأشياءِ أيضًا، فوصل إلى سمعي أن الشيخ يشرح في كتاب المحرر لابن عبدالهادي المحدّث الفقيه النحوي، فضلاً عن أنه في الأصل علماء الحنابلة، فتاقت نفسي الدرس، حبًا في الكتاب والمعلّم، و نفورًا مما هو شائع بين طلاب العلم من العناية والاهتمام بكتاب الحافظ ابن حجر بلوغ المرام.

ومن هؤلاء: الشيخ المحدّث نظر الفاريابي، الذي كنتُ ألقاه في مكتبة دار الصميعي بحي السويدي المأنوس، فأطرح عليه بعض السؤالات، فيردُ عليَّ الجواب إجمالاً، هذا قبل أن تتوثق بيننا المعرفة مؤخرًا، والفضل يعود لأخي الأديب المحترم جدًا فهد التميمي، و بمناسبة ذكر اسم الشيخ الفاريابي أذكر فرحي حين صدر كتابه: نُكت الزركشي، بتحقيقه والذي قدّمه له الشيخ عبدالله السعد، فرحت بهذا العمل كفرح الأطفال وهم أمام بوابة مدينة الألعاب.



حقاً إنَّ ليلتي هذه كئيبة،  غريبة، ولها في النفس هيبة - سجعٌ سَخيف - هأنذا بعد أن فرغت من كتابة هذه الحِقبَة أقف أمام باب مكتبتي أنظرُ السماء بعد أن ابتعلتُ قرصاً من البنادول المنوّم أغتال به الشعور الذي يهرس عقلي من فرط التفكير المؤلم المصاحب لذكرياتي، فاقترحتُ على نفسي أن أُرتّبَ دفتر الفوائد التي أُدوّنها أثناء القراءة هروباً من المُنزَلَق الدرامي إن أنا تماديت، فقفز أمامَ بصري فوراً قولٌ فيه ما فيه من سخافة المعنى، و ضحالة الاختيار عندي، لكنه أعجبني، وارتاحَت له نفسي، ذلك هو قولُ هايدغر: أن هيجل كانَ مولَعاً بقراءة الكُتُب التافهة !

قلت هذا هيجل على جلالة قدره يقرأ في الكتب التافهة، ومؤكداً أنه صاحب التافهين، وقضى شطراً من عمره مُتقلّباً في التفاهة، ثم كررت النظر في العبارة مرة أُخرى، ثم أُخرى، فلم أجد الرابط الذي يدعوني للارتياح مع تفاهتي التي أشعر بها، قلت لنفسي معانداً: إن المرء لابد له أن يلج إلى التفاهات - اختياراً -  في مرحلة من مراحل حياته، ثم يعود، إلى الأصل الأول، الأصل الذي نشأ في محيطة، متأثر  بتربية، وتعليمه، و ثقافته،  ولي أيتُها النفسُ على ذلك شواهد من السير، والأمثال؛ كيف يا نفس للمرء أن يتجرد مما ذكرته كلياً إلى غير عودة أيكون ذلك ؟ مُحال.

فضلاً عن ذلك صعوبة استمرارية المرء في طورٍ واحد إلى أن يموت، إذاً لاختلت الحياة.

بعد دقائق معدودة، أَخَذَ قرص البنادول يسري في عروقي متجهاً إلى دماغي، واتفق أنني كنت قبل تناولي إيّاه أشرب الشاي، كؤوس ملأت بها رأسي من الساعة الحادية عشر، حتى الساعة الثالثة فجراً، فبدأ جسمي يتحسّسُ من زيادة الكافيين، وأخذتني رعدة، ثم تلاها خوف يصاحبة تقزّز وارتجاف، أهذه جلطة أم أنَّ جسدي يُريدُ أن يعملَ معيَ مقلباً، أم أن الله أرادَ أن ينبهني إلى تفاهة العبارة وأن لا أتمادى في غيّي و تفاهتي ..

 أغلقت عيني محاولاً تسوّل النوم ، ولطردِ هذه الذكرى التي ما تفتأ ترهقني حين تهبط، الذكرى التي ما أفتأ استحضرها لأنفش بها ريشي، وهكذا دواليك، كالشمس والقمر، يتعاقبان في أحوال مختلفة، وأنا بين الحالتين أدركتني الموتة الصُغرى، وأُسدِلَ السِّتَارُ فوقَ عيني.


Join