الخوف من الكتابة
نحوَ تدوينةٍ أولى
ليس من سبيلٍ للاستمرار في العيش دون كتابةٍ أتنفس بها ما يعتلج في صدري, رغم ما يعتريني من خوف وأنا أتلمّسُ أزرار اللوح الكتابي, لا أدري مما أخاف, أو أدريه ولا أريد أن أُفصح عنه, وللمقاربة أكثر: أنا لا أتقبل وجودي في هذا الكون كإنسان وُجِدَ بشكلٍ عَرَضي, أتقبل الحياة والموت والزواج والعمل والقبح والجمال كأي فرد في هذه الدنيا, إنسانُ لا يتمتع بمَلَكة التساؤل والوعي والحس والذوق.
مأساةُ حياتي الأولى: أنني ولدتُ وأنا أبكي .. لكن: ليس كبكاء الغير, ولا أدري حقيقة عن هذه الثقة التي أكتُب بها عن بكائي المختلف عن الناس, إلا أنني فعلاً أره مُختلِفًا.
مأساة حياتي التالية: أنني تعاطيت الوعي ليل صباح, وهو أشدُ فتكًا من الأفيون الأفغاني.
يقول كافكا المسكين: [ إذا كان هناك ما هو أشد خطورة من الإسراف في المخدرات، فمن دون شك هو الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء ] ..
ويهمس لنا العبقري أستاذ الأرواح دوستويفسكي: [ أقسم لكم أيها السادة أنّ شدة الإدراك مرض، مرض حقيقي خطير! وإنّ إدراكاً عادياً كافٍ من أجل سعادة الإنسان].
أما يسوران العجوز المتشائم فيقول: [ الوعي لعنة مُزمنة وكارثة مهولة، إنه الإقصاء الحقيقي، فالجهل وطن والوعي منفى ].
لكن قبل ذلك لابد أن يكون السؤال: هل تعاطي الوعي مسألة اختيارية ؟
فمأساة حياتي الحالية و الآتية: هي أني لا أنفك عن تناول الأشياء بإدراكٍ عالٍ ممتزج بسوداوية أفسدت عليَّ النظرة البسيطة التي لا تحتمل قدرًا من التفكير والتمعن وتقليب النظر.
إنني أحنُّ إلى السطحية, إلى رُكام الزيف, إلى أنسان الغالبية !
الذي يحزُّ في نفسي هو أنني أجد الأغبياء هم الأشخاص الوحيدون المترعون بالثقة
جورج برناردشو
لوليم فوكنر عبارة خالدة إذ يقول:[ إن العمل العظيم لا يكتبه إنسان خائف]
ولا يعني فوكنر الكتابة الصحافية التي نصبح ونمسي نطالعها فهذه ليست سوا غثيان استشكلَ بقاءه في الخفاء, إنما يعني الكتابة التي تبحث عن الحقيقة ليست المقاربة لها, لأن الحقيقة لايزال البحث عنها مستمرًا في الكتابات الفلسفية والأدبية
أعمال تُقارب ( الصخب والعنف ) كمثال, وليس الحصر.
يقول فوكنر: [ إنها الرواية التي قتَلتني .. أماتتني وأحيتني عدة مرات لقد متُّ عدة مرات وأنا أكتبها ]ويقول أيضًا: أنها الرواية التي كتبتها وأعدتُ كتابتها خمسَ مراتٍ إلى أن وصلت إلى النص الذي أُريده ].
كان فوكنر يدوًن هذا النسيج الأدبي المستحيل في حالة من الوعي التام المؤلم القاتل, حتى أنه في كثير من الأوقات يغرق بين قناني الكحول لتهدأ حدة الوعي ويخف التوتر الذي يلازمه أثناء الكتابة!
لم كل هذا الأنتحار في سبيل اخراج عملٍ روائي, أكانت رهبة الصدق والتماهي مع النص, أم أن الحقيقة أكبر من ذلك ؟ حقيقة الوجود والتعامل مع الحياة بشكل يخالف المألوف .. أم هي الحياة في عدت داخل النص وما عادت خارجه ؟
في هذا الصدد يقول الروائي النوبلي اللاتيني جابرييل ماركيز غارسيا:
“ إذا كانت رواياتي جيدة فذلك لسبب واحد وهو أنني حاولت أن أتجاوز وليم فوكنر في كتابَة ماهو مستحيل وتقديم عوالم وانفعالات مستحيلة على الكتابة والكلمات ! ولكن لم أستطع أن أتجاوز فوكنر أبدًا إلا أنني اقتربتُ منه وأن هذا الاقتراب البسيط من التجربة الروائية عن فوكنر هو البعد الوحيد الذي يجعل رواياتي ناجحة “ هكذا تحدث ماركيز !!
ألهذا الحد كان الاقتراب من مجاراة أدب فوكنر ولو قليلاً يولّد روايات عظيمة مثل: مئة عام من العزلة و وقائع موت مًعلن و خريف البطريرك ؟
ما السر في هذه القوة التي تتمتع بها أعمال وليم فوكنر ؟
الجواب بلسان فوكنر: “ العمل العظيم لا يكتبه إنسان خائف “ ..
الخوف من الكتابة أمر طبيعي, دعك من أن المرء يعرض عقلة أمام الجمهور وما إلى ذلك من تلك السخافات التي يُطلقها الحمقى, فهذه سطوات قد ولّت ولم تعد لها قيمة, إنما الخوف: خوف من النتيجة نتيجة الفعل الكتابي للذين يتعاطون الوعي ويفسرون الأشياء وفق رموز أو معانٍ عقلية محددة, حتمًا أنها غير مرضية بالنظر في كثير من النماذج في الحياة, مثل: بودلير أو ميشيما الياباني أو نيتشه ورامبو.
.. إنني أحنُّ إلى السطحية, إلى رُكام الزيف, إلى أنسان الغالبية !