رحلة البحث عن بكر أبو زيد


التَوق والظَفَر بالنص والصورة

حين تفوّهت أمي باسمِهِ أمامنا قال جدي: ما هذا الاسم ؟! يبدو أنه من الشام !، فأجابتهُ أمي: هُم أسرة سعودية فاضلة، لكنها تكبُره بعامٍ واحد، قال جدي: إذن فلنصرف النظر.

هكذا تعرّفت أولَ مرةٍ على اسمهِ، فقد كُنا نبحث عن عروس تناسبني آنذاك، وأثناء مرحلة الفرز، إذ بابنة خالة لي تقولُ لأمي أن هناك فتاة مناسبة تدرس في جامعة الإمام إن لم يخب ظني، وبعد جُملةٍ من السؤالات تبيّن أنَّ تاريخَ ميلادها دونَ ميلادي بعام واحد، و لعادة جرت عند العرب لا أدري على ماذا بُنيَت صرفنا النظر عنها بعد حكمة بليغة ألقاها علينا جدي الحبيب. 

هذه الفتاة الكريمة التي لا أعلم اسمها حتى الآن هي ابنة الشيخ بكر أبو زيد.

بعد أيامٍ يسيرة دخلت المكتبة فإذا بي أقرأ على غلافٍ أمامي، تأليف: بكر بن عبدالله أبو زيد، هنا تذكّرتُ الاسم جيدًا، وكيف مرّ بي، وأين، و عن تلك الحكمة البليغة التي قالها جدي.

 بكر أبو زيد، من هذا البكر الذي يلاحقني ؟!


حين تقرأ فاعلم أنَّك تضم إلى خيبتك خيبة أُخرى  

داغر الفيش

تناولتُ الكتاب وقلّبته ظهرًا لبطن، كان الكتاب في حلّة رسمية جامدة، بلا نقوش، خالٍ من البهجة، لا يُشبه الكتب الشرعية التي مرت بي في السابق، و عنوانهُ: ( حلية طالب العلم ).

سألت البائع: ألديهِ مؤلّفاتٌ أُخرى ؟

فأظهر لي أكثر من خمسة عشرَ عنوانًا، جُملتها في غاية التفرّد و الغرابة، مادة خلت من التقليد و التكرار، كُتبت بأسلوب أدبيٍ رفيع لا مثيلَ له، لا يتناولهُ مشايخ بلادنا آنذاك، وهنا يحضرني قول الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - حين شرع معلّقًا على حلية طالب العلم، قال في أول حديثه:" وأظن أنّا سنحتاج إلى قاموس لنَتَبَيَّن بعض الكلمات لغرابتها، والظاهر أن الشيخ يكتُب على سليقته ولا يتكلّف هذا "، يقصد أن بكر أبو زيد بعيد كل البعد عن التصنّع و التنطّع، وأن هذا هو قلمه وفيه من وحشيّ الكلام.

ابتَعتُ تلك العنوانات، واتّجهت إلى المنزل - ركضًا - بسيارتي، وبدأت في البحث عن هذا الرجل ومن يكون ؟

 تبيّن لي أنّه من أبناء عمومتي، وأنه من بلدة الدوادمي، كما أنّه عضو في هيئة كبار العلماء، و رئيسُ لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، ثم إنّه يُعدُّ من النوابغ الذين عَرَفَتهم العربية السعودية، وأنّه والد تلك الفتاة التي تكبرني بعام واحد، فأمرنا الجدّ أن نصرفَ عنها النظر.

وبمرور الأيام بدأت أهتدي إلى الشيخ و أقتربُ منه ( ورَقيّا )، قرأت له التعالم، وتاريخ السبحة، وتصنيف الناس، والنظائر، و المدخل المُفَصّل, ثم أتيتُ على كلِّ ما أملى وخطّ.

 "تصنيف الناس بين الظن واليقين "، أحدثَ هذا الكتاب دويًّا في الأوساط الدينية و الثقافية، إذ لم يتجرأ أحدٌ من الناس، أو فلنقل لم يوفَّق أن ينتقد أحدٌ من الناس حالة الفوضى التي أُصيب بها بعض المشايخ تجاه رفاق دربهم - إن صحّت التسمية -، أخذ بعض هؤلاء يمتهن التصنيف و التبْديع، هكذا بلا حياء ولا مروءة، امتهنوها تشهّيًا، وبعد أن كانت اللحوم مسمومة، أضحت بعد ذلك لحومًا لذيذة، مُشتهاة، بل ألذُّ من لحم التيس الصغير إذا أُخرج من الفرن.

حالة أشبه ما تكون بالحالة المكارثيّة، تلك الهستيريا التي عصفت بالولايات المتحدة الأمريكية، فوضى، فوضى، فوضى، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، ولا تزال آثار هذه العبثية التي أقترفها المشايخ باقية إلى الآن نراها بأعيُنِنا.

وعلى مذهب تصدير الثورة، تم تصدير هذا السعار الفكري الملوّث إلى الدول العربية، شاهدناه في مصر حاضرًا، وفي ليبيا كذلك، وفي الحالة الليبية كان فريدًا من نوعه من حيث غباوة المنهج و هزلية الطرح وفي كل وادٍ بنو سعدٍ !

كان المحتوى الذي صبّه بكر أبو زيد في كتابه جيّدًا، جاء في غاية المتانة و الإجادة و الاختصار، سِفْرٌ لا يكتبه من في قلبه مرض، فاض بالعاطفة و الرحمة، وطَلَبِ الهداية للناس أجمعين.

أثناء ذلك وقع في يدي كتاب آخر يتناول فيه الشيخ الحكم على بعض المرويات، على الرغم من أن الشيخ لا يُصنّف من ضمن المحدِّثين الذين أُحبّهم، إلا أنه تناول في كتابه المسائل الحديثية متفوقًا على علماء الحديث في عصره، تفوّقًا حقيقيًا، وليس التفوّق الذي تُمليهِ عليّ عاطفتي و محبتي له.


تاقت نفسي إلى لقاء الشيخ، وشبّهتُ الأمر في ذهني أن في يدي عِقدًا لم يتبقّ من تمام صياغته و تشكّله إلّا ماسّة ذات لون فارق، لتَمنحَ العِقدَ بريقًا خاصًا، لكنّني كنت أجهل القناة التي تُوصلني إلى هذه النادرة.

كان العِقدَ قد تشكّل من العلامة عبدالله بن جبرين، والعلامة القاضي عبدالله بن عقيل - فقيه الحنابلة في وقته -، و العلامة عبدالرحمن البراك، وقبل هؤلاء شيخي الأول ومعلمي: إبراهيم بن سعد العكيل، الذي له كل الوفاء، الشيخ الذي أنار لي دربي، وأمسك بيدي في طريق العلم والثقافة، واحتملَ جهلي، وبرودي، وسوء أدبي حين شرعت اتنّقل بين المشايخ دون إذن منه.

فكّرتُ، ثم فكّرتُ مرة أخرى، ولم يتمخّض عن هذا التفكير شيء، وبعدَ عصفٍٍ ذهنيًّ انبجست من الأرض فكرة تقول: دونكَ ( دار العاصمة ).

لماذا لا أذهب إلى ( دار العاصمة ) التي تطبع كُتب الشيخ منذ سنوات، وأسألهم عن رقم هاتفه، أو عن عنوان منزله، فقد أجدُ في المكتبة الجواب، وما يدريني لعلي أيضًا أجد الشيخ هناك حاضرًا، و كذلك كونها ليست عنّا ببعيد، هي في مُنتصف شارع السويدي العام.

 كنت مبتعدًا ابتعادًا كُليًا عن الصداقات والمعارف، لأحداثٍ جرت ليس هذا محل ذكرها، وليس لي إلا الإفراط في الفأل، والخضوع التام إلى الدراما التي تداعب خيالي، لذلك لم ألجأ إلى أحد من الناس في رحلة البحث هذه، لقد كُنت في قبوي، ذلك القبو الذي ذكره دوستويفسكي في روايته العظيمة.


هأنذا في مكتبة دار العاصمة، وهذه كتب " بكر أبو زيد " عن يميني و عن شمالي تُزيّن الدار، كان البائع خلف مكتبه، يرتدي ثوبًا شتويًا يميل لونه إلى الخُضرة، وهو من أغرب ألوان الثياب التي شاهدتها في حياتي، بل إنني لم أُشاهد في حياتي من يلبس مثل هذا اللون.

قلت:السلام عليكم سيدنا الشيخ ..

فقال: وعليكم السلام، أهلا ..

حمدًا لله، البائع من الجنسية المصرية، وهذه تُحسب في صالح عملية البحث، فحين أسألُه عن بكر فسيجيب في زهوٍ لا مثيل له أنه يعرفه و قد جالسه غير مرة، بل وأثنى على إدارته للمكتبة.

 بادرته بالسؤال عن جديد الكتب، فذكر لي طَرَفًا منها دونَ اكتراثٍ، ثم عاد واستقرَّ فوق كرسيّهِ، وظهر لوهلة بثوبه الأخضر هذا كالببغاء، تلك الببغاوات في أفريقيا باهظة الثمن.

أحسست بفشل مهمتي، وأخذ الغيظ يأكلني، وقلتُ في حسرة: أنا بالنسبة إليه في - علم التسويق - مُشترٍ مُحتَمل، وهو يعاملني ببرود تام ولا يكترث بالريالات التي في جيبي، إذن كيف سيستقبل حديثي وسؤالاتي عن بكر أبو زيد ؟

ثم إن أساليب الجواسيس وتقنياتهم، والخروج بوجوهٍ عِدّة في الساعة الواحدة، شيء لا اتقنه، ولا أدريه، وقد ذكرتُ آنفًا أنني في عُزلة تامة، أصابتني بالوحشة، و التوحّش، وضعف الحيلة، وعيّ اللسان.

 وخلصتُ إلى أن أقتني بعض الكتب وأذهب ثم أعود بعد أيام، فيكون العودُ في صورة أَجمَل و أَحمَد، بين مشترٍ سابق، ومشترٍ مُحتَمَل لاحق، ووجهٍ يسير في طريقه إلى أن يكونَ مألوفًا.. هكذا قلت.

عدتُ بعد أيامٍ يسيرة، وقد زوّرتُ في نفسي كلامًا لن يستطيع أن يجد معه مهربًا، سأحشرهُ في زاوية المكتبة وأُجهز عليه بسؤالاتي، سأسحقهُ بسرعة بديهتي.

قلت: السلام عليكم يا مولانا ..

فقال: وعليكم السلام، أهلا ..

الحقيقة أنني جئتكُ اليومَ كصديقٍ يريد أن يتحدّثَ إلى صديقه، قلت ذلك وأنا مُغمِضٌ العينين في ارتياع التلميذ المشاغب أمام مدير المدرسة، فطيّرَ بصَرَه في خِلقَتي كمن صعقته كهرباء في قدمه، ثم قال: ما شاء الله، أتقول كصديق ؟

قلت له: إنني يا سيّد أبحث عن هاتف الشيخ بكر أبو زيد منذ زمنٍ، أو عنوان منزله أُريد لقاءه والتشرف بالسلام عليه، فهل ترشدني إلى مطلبي ؟

قال: أنت بتتكلّم وفاهم بتقول إيه ؟!

الشيخ لا يُقابلُ أحدًا، لا يُريد، من أنت ؟ مستحيل .. مستحيل، ثم قام عن كرسيه، وأخذ يمسك أسفل ثوبه الأخضر كمُستعّدٍٍ للهرب، فعل كل ذلك، وهو خافضٌ رأسه، يُجيِلُ بصره في الأرض، كأنما كنت أحدثه في شأن سياسي !

فقلتُ - وكأن زلزالًا يضرب المكتبة -: وماذا قلت - بارك الله فيك -.

- وأنا حين أقول عبارة بارك الله فيك، فهذا يعني أنني مستعد لافتعال معركة، أو أن أبيع القضية بريال -.

 هوّن عليك، نحن نتحادث، أرأيتني أقود سيارتي متجهًا إلى منزله، أرأيتني أتناول هاتفي لأتصل به، نحن في طورِ الحديث يا مسلم.

قال: أزِل هذه الفكرة من رأسك، ستبوء محاولاتك بالفشل.

قلت له - وقد أمسك الغضب بشعري -: ومن هو حتى لا يُقابل الناس ؟ هاه .. من هو، أرأيتَ إن أنا وقفتُ أمام دارهِ أيطردني ؟ سأذهب إليه وسألتقي به ولو طُردتُ ركلاً بالأقدام .. سأقابله، أتَفهَم ؟

خرجت من المكتبة وأنا أقسم بآيات الله، وبكتابه العظيم، أنني لن أعود إليها ما حييت، وحين ركبت سيارتي وأدرت المحرك، فإذا به يخرج من المكتبة ويُشير إليَّ بيده أن توقّف، فدعست على دواسة البنزين بأقصى قوة عرفتها البشرية، فجاوزتُهُ وأنا أنظر إليه في احتقارٍ، مُستمتعًا بصراخ الإطارات، مُستنشقًا الدخان الصاعد منها.

ذهب عني شوق اللقاء وولّى، بعد هذا الاستفزاز الكلامي، و الجنون الذي اعتراني أمام لابس الثوب الأخضر، حتى لن أقول اسمه، ولا صفته، سأكتفي بثوبه الأخضر، ثم هو ليس بالأخضر الأخضر، بل يخالط خضرته شيء من صفَار.


دار الزمنُ بنا جميعًا، أنا و بكر أبو زيد وصاحب الثوب الأخضر الممزوج بصُفرَة، فإذا بي أجده أمامي في معرض الكتاب.

وجّه نظراته إليَّ كبندقية، ولم يترك لي مجالاً لأصرف وجهي عنه، أو أن أدّعي عدم معرفته، أو نسيانه في أقل الأحوال، فرحب بي ورحبتُ به على مضض.

ثم قال: لماذا لم تتوقف تلك الليلة أيها الأحمق ؟، فقلت: دعنا من تلك الأيام، فقد ولّت، والحديث فيها مضيعةً للوقت، سأتجول في المعرض ثم أعود إليك، انتظرني.. ولم أرجع إليه.

عدت بعد شهرٍ من صدفة المعرض تلك، لحاجة ماسة إلى بعض العناوين التي تصدر عنهم، وأثناء ذلك شعرت بحنين يعاودني، إنه حنين اللقاء، وتكرار التجربة، فقلتُ له كمن لا يهتم وعلى سبيل المُزاح: ألن تخبرني الآن عن منزل الشيخ وتكفّر عن ذنبك؟ فقال: سأخبرك، لكني استحلفك بالله ألا تذكرني أبدًا إذا قدر الله والتقيت به !

قلت: لك ذلك، أخبرني أين يقع منزل الشيخ بالتفصيل ؟

فقال: في حي العليا، شارع كذا وكذا، بجوار مسجد ………..

فذهبت من غداة إلى منزل الشيخ بحي العليا، وقصدت المسجد فورًا، وقد فرغ الناس من صلاة العشاء، فلما دخلت إذ بالمسجد يغرق في الفراغ والظلام، إلا أن هُناك رجلًا اتخذ في الروضة مكانًا يقرأ في مصحف، أو أنه يقول الأذكار.

اتجهت إليه ولم يكن يضع العقال، وخطر لي أن هذا القاعد قد يكون الشيخ بكر نفسه.

أتيتُ من خلفه متسوّرًا المحراب، وهذه بداية ليست حسنه، فألقيت السلام ، فلم يرد علي !، فأعدت السلام بصوت مرتفع هذه المرة، فقال الرجل في التفاتة سريعة: اذهب الله يعطيك، لقد أعطيت الذي قبلك، ليس معي شيء، ما معي ولا ريال.

نسفَ هذا الرجل بكل وقاحة تاريخَ ثراء أُسرتي في لحظة، لقد جعلني شريدًا متسولاً وهو لا يعرفني، وأنا واقف أمامه ككسيحٍ عُرضَ عليه كما يُعرض على مُحتضر شريط حياته، كفيلمٍ سينمائي، كفاح أبي في عمله إلى أن انتهى مسؤولاً في وزارة الداخلية، وتاريخ كفاح أمي الذي بوأها أن تتقاعد وهي تُدير مدرسة، كيف لهذا الأرعن أن ينسف كفاحنا، وأن يستهزأ بعَرَقِنا.

فقلت له - وقد استبدَّ بي الغضب: أنت .. ما الذي تقوله !، أنا لستُ متسولاً طوافًا، إنما جئتُ أسأل عن منزل ابن عمي بكر أبو زيد، أتعرفه ؟

فنظر إليَّ نظرة الذي أُسقطَ في يده، ولكن لا يريد الاعتراف، وقال بصوت مخنوق: ابن عمّك رحل عنّا منذ ثلاثة أعوام، أيها الواصل !

تركتهُ دون وداع أو شُكر، وعلى ماذا أشكره ؟!

خرجت من المسجد - والذي نفسي بيده - لا أدري في أيّ حيًّ أنا، وأي مركبة أمتطي، ولا أين توقفت بها من الغيض الذي سكَبه في داخلي رجل الروضة في المسجد، ثم إني أقسمت بالله العظيم، على ألّا أعود إلى هذه المهانة التي أنا فيها ما حييت، ولو أن بكرًا عليه رحمة الله واجهني في طريق لسلكتُ طريقًا آخرَ غير الذي هو يمشي فوقه.


والحق .. أن الرجل لم يخطئ في تقديره أنني من المتسولين المشرّدين، فلو نظرتم إلى هيْأَتي تلك الليلة لتصدقتم عليّ، ولتضرّعتم إلى الله أن يلطف بحالي, بحال هذا الشاب الكسير، فإقبالي عليه كإقبال يتيمٍ على مبعوث جمعيةٍ خيرية، يُقدمُ هذه الرجل و يؤخر الأخرى حياءً وكمدًا.

 كنتُ أرتدي ثوبًا إلى نصف ساقي، وفي قدمي جورَبٌ، وأقولُ " جوربًا " تلطيفًا، وإلا فهو شبيه بالخفافِ المهترئة التي كان يلبسها السلف من ذوي الخَصَاصَة - رحمهم الله - تلك التي مرت بنا في سير أعلام النبلاء، وكُتُب الطبقات، وفوق رأسي شماغ أحمر اللون، لم يدخل في آلة الغسيل منذ أسابيع، فضلاً عن أن تمسّه آلة الكيّ لتُصلحَ خيوطه المُنتَفشة كظهرِ قِط مُفزَع.

بل إنني لو كُنتُ في عصر الأديب المنفلوطي لم يُجاوزني إلى غيري من الناس، سيجد في منظري ما يدعوا إلى الكآبة واستدعاء القلم والشروعِ في البُكاء.

إلا أنني ما زلتُ أعتزُ بأيامي تلك، تلك الأيام السلفية الزاهدة، مفتخرًا بها، مشيعًا أخبارها، وما جرى لي فيها كحديثي هذا إليكم أيُها السادة.

 فالمرء لا يخجل من اختياراته، ولا يتبرأ منها، فالبراءة منها نقصٌ في العقل والمروءة، وازدراءٌ لرفاق الدرب، واستكبارٌ وقحٌ على شخصه و شبابه في تلك الحياة التي مرَّ عابرًا فتجاوزها.

وإني هُنا أعجبُ من المرء الذي في العشرين من عمره، فإذا نظرت إليه كأنما هو في الستين كهلاً، يتقمّص التَّماوت الذي سيقَ إليهِ الكهول، ويتصنّع ثقل الحركة، وقلّة الاكتراث بالمحيطات، وتكلّفِ كلام الكبار و موضوعاتهم، وإذا ضحك ألحق الضحكة استغفارًا في غير موضعه، وهو أتفه من ذلك وأدنى، فيما لو قاس حجمه قياسًا صحيحًا، تُرى ما الذي يدعو الشباب في أيامي تلك وفي هذه الأيام إلى هذه الفعلة ؟

إنَّها كما يصف العم دوستويفسكي: " أدمغةٌ شاخت قبل أن تنضج ".


ذكرتُ ما حدث إلى ابن عمًّ لي أثير، وهو الشيخ/ عبدالعزيز بن محمد الهويمل، كاتب عدل القويعية، فقال لي: يا ابن أخي إلى أين أنت ذاهب، والله ما قابلتُ أحدًا إلا وهو يعرفك أو سمع باسمك، ألم تجد في هؤلاء من تسأله عن الشيخ ليَتبيّنَ لك الأمر، دون أن تخوض هذه المغامرة ؟ 

  إن الشيخ بكر مريضٌ منذ سنوات، بعد عملية أجراها في رأسه، فأصبح حلسَ بيته لا يغادره، وأنه لا يدخل عليه إلا صفوة معارفه والمقربين منه قرابة الدم، أطرد هذه الفكرة من رأسك ولا تتعلق بها لأنك لن تراه، بل إنك لن تجد من معارفك الآن من له صلة به، فمعارف الشيخ هم نخبة النخبة.

هنا آمنتُ أن فكرة اللقاء ولدت لتموت، وأن لا لقاء إلا في الدار الآخرة، فاللهم أحسن الخاتمة و الوفادة.

ومضت السنون ..

وفي السابع و العشرين من الشهر المحرّم من عام ١٤٢٩، وردني اتصالٌ في الرابعة عصرًا.

المتصل: السلام عليكم ..

 أنا: وعليكم السلام

المتصل: أحسن الله عزاءكم في الشيخ بكر.

أنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون .. صحيح ؟!

المتصل: صحيح، لابد أن تحضر الصلاة، لا عذر لك.

أنا: بحول الله وقدرته، متى يصلون عليه ؟

المتصل: بعد صلاة العشاء، وبالمناسبة لم أُخبر إلا أنت يا شيخ ، لابد أن تحضر.

أنا: جزاكم الله خير، لكن لماذا الاستعجال ! فالشيخ ليس كآحاد الناس، سيكون هناك الآلاف ممن يودّون الصلاة عليه ؟!

المتصل: دعك من هذا الحديث الآن، سأخبرك في وقت لاحق ..

انتهت المكالمة، وشعرت بألمٍ في روحي، وأخذت في البكاء، فهذا المُتصل عهدي به قديم، ولا تواصل بيننا منذ سنوات، كيف تذكرني في يوم وفاة الشيخ، ما الداعي لهذا التَذكر في انقطاعاتنا هذه ؟ هل هذه التي يقولون عنها كرامات الأولياء، أأصبحتُ وليّا الآن ؟ من يدري.

 لم يتَيسّر لي اللقاء بالشيخ بكر إلا في يوم وفاته - رحمه الله -، إن صح الوَصف، فتحسرت لهذا الفوات، ثم قلت: فلتهدأ إن فاتك اللقاء فلا تفُتكَ الصلاة على المرحوم، وفي الصلاة عليه حكايةٌ لابد أن تُروى: 

ذهبت وحيدًا، إلى منزل الشيخ في حي حطين شمال مدينة الرياض، فالتقيت بالمتصل هناك، فلما أردتُ مكانًا لأركُن فيه سيارتي لم أجد !، و من المؤكد أن الصلاة ستفوتني لضيق الوقت، ثم تبين لي أن الصلاة ستُقامُ في المسجد الذي بجوار منزل الشيخ بكر، ويظهر لي أنه هو الذي تكفل ببنائه أيضًا، كنتُ أعتقد آنذاك أنهم سيحملونه إلى أحد المساجد التي تقام فيها الصلاة على الجنائز.

أتيتُ المسجدَ فوجدته لا يتسعُ للمُشيّعين، فهناك عشرات الرجال في الخارج، وبعد بحثٍ وعناء، لم أجد مكانًا للصلاة عليه إلا في عمارة ما تزال طور البناء، فدخلتها وقد غصّت بالمُصلّين الذين سبقوني، فصعدت إلى الطابق العُلوي، وإني أذكر هيئة المكان وكيف كُنت أدوس برجلي المسامير والحديد و الأخشاب، ويعلق في نعلي بقايا خلطة الإسمنت، كل ذلك وأنا متناول أسفلَ ثوبي بيدي لئلا يتّسخ بالأقذار، كُنا في ظلام دامسٍ مُطبِق، لا يُسمع فيه إلا النشيج و إنا لله وإنا إليه راجعون.

فجأة بدأ لاقط الصوت يعمل، فإذا بمفتي العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ يصلي بنا العشاء، وحين فرغنا، وأراد أن يُصلي على الشيخ بكر، حدثت جلبة في المسجد، فماذا دار بين المصلين هناك ؟

أراد مفتي عام المملكة الشيخ: عبدالعزيز آل الشيخ أن يؤم المصلين، ولكن صهر الشيخ وهو: أحمد الريس،-  ريّس الرياض - ذكر للمفتي أن الشيخ بكر قد أوصى إليه أن يؤم هو الناس في الصلاة عليه، وفي ظني أنه هو الذي تولى غسله و تهيئته أيضًا، وكأن الحضور استهجنوا هذه الفعلة من صهر الشيخ إذ كيف لك أن تمنع و تعترض في جرأةٍ إمامة مفتي عام المملكة، وهو الممثّل لأعلى سلطة دينية في الدولة ؟! فارتفعت الأصوات، إلا أن الخلاف قد قُضي عليه في مهده سريعًا واستَتبَّ الأمر لأحمد الريس بالصلاة على الشيخ.

ومن المشاهدات التي استرعت انتباهي تلك الليلة: خروج سكان الحي مدهوشينَ في تلك الشوارع القريبة من منزل الشيخ وهم يشاهدون جموع الناس وأفرادهم يسعونَ إلى المسجد، فهذا حدثُ لم يمر بهم من قبل ذلك، فكأني بهم ولسان حالهم يقول: هل هذه مظاهرة ؟، لأن سمات الماشين في تلك الليلة مختلفة عما هو معهود، عشرات الشباب والشيب الملتحين يقصدون المسجد لأمر غير معروف لديهم، وفي هذا إثبات للمقولة التي رواها الدارقطني عن الإمام أحمد - رحمهم الله - عن يوم الجنازة.

ومن المشاهد الجميلة التي لفتت انتباهي في المقبرة، مشهدٌ لا يُنسى ساقني الله إليه سوقًا، ولم يكن هناك شاهد غيري فيما أعتقد، أقول لم يكن شاهد غيري ليس كقولهم حدثني من أثق به، فقد رأيته بعيني.

  في مقبرة الدرعية التي دُفن بها الشيخ بكر، كان الحضور قليلًا جدًا فقد كنّا أعدادًا تُعَدّ، بخلاف الحضور في المسجد، والسبب يعود في نظري أن هناك خطأ قد وقع لدى المُشيّعين في معرفة مكان الدفن.

 على أية حال: وأنا بين الجُمُوع رأيت شيخنا العلامة عبدالله بن جبرين - رحمه الله - قد أقبل وبجانبه الشيخ: عبدالكريم الخضير ممسكًا بيده يقوده، و الخضير يقول: افسحوا الطريق للشيخ، افسحوا الطريق، كانا يمشيان في طريق ممهّدة بين القبور، تلك الطُرق المعبّدة، فلما أرادا الشروع و الدخول حيث القبر، هوى الشيخ عبدالكريم الخضير فخلع نعل الشيخ عبدالله بن جبرين بيديه، ثم امسك بهما أو أنه تأبّطهما، ثم توجها للمشاركة في الدفن.

وما رأيته كان من أصدق المشاهد التي تُتَرجم معنى تقدير العلماء و توقيرهم، فعلاً لا قولاً، وظلّت هذه الفعلة سراجًا منيرًا لي في سلوكي وأدبي مع المشايخ والأساتذة.

Join