مُستَعمَرة الحِلَّة

انطباعات في دائرة المفقودات الشخصيّة

قصدتُ قبلَ أيامٍ سوقَ الآلات الموسيقية بحي الحلّة، والذي هو من أقدَم الأسواق في مدينة الرياض، سوقٌ مُختبئةٌ خلف محلات الكبدة، وما حوته بطون البهائم مما لا يُستساغُ أكله عند كثير من الناس هذه الأيام.

 هذه السوق العريقة أعرفها منذ عام ١٤٠٩هـ، زُرتُها بمعيّة أبي -رحمه الله - ، كان ذهابي الأول أيُها السادة مع سيدي الوالد لتناول طعام الإفطار، حيث سيذهب بي بعد ذلك إلى المركز الصحي ليستخرج لي تلك الورقة التي تقول: إن حالتي الصحيّة جيّدة، وإني أستطيع الالتحاق بركب المُتعلّمِين.

أتَذكّرُ هيئتي جيدًا في ذاك الصباح البارد، صبيٌ في الخامسة من عمره، يرتدي ثوبًا ثقيلًا أسودَ اللون، يتّقي به البرد، ومن تحت هذا الثوب يرتدي قِطَعًا من الملابس بديعة الألوان خالية التناسق.

لم تترُك لي أمي حرية الاختيار، ولم يقنعها انتحابي ونشيجي، ظلّت تُردّد: " أُشكُر الله، الناس تأخذ من العادي الرخيص، وأنت يُشترى لك من شارع الخزّان "، وكان شارع الخزّان في ذلك الوقت دبنهامز الأُسَر المتوسطة.

ألبستني أمي سروالًا قُطنيًا بارزَ الخيوط، على هيئة مربّعات منتفشة ظاهرة، دقيقَة الخياطة، ليست متهدّلة، لم يكنُ لونه معروفًا عندي، لونٌ ليس له اسم، ولا يتسق مطلقًا وثوبي الأسود، فركبني همٌ، واعتراني حَنَق، ما الذي سيقوله الناس عنّي في الخارج، حين يرون أطراف سروالي؟، والناس حقيقة في شُغلٍ عنّي وعن ما أرتدي، فأنا حين أحشر جسدي بداخله أشعر أنّ العيون تُلاحقني، تتبعني بسخرية، عيُونٌ تشبه عدسات الباباراتزي، وما كان يُسرّي عني ويُخفّف بلواي ويُعزّيني عن تلك العيون إلّا سيارة أبي الفارهة حين تتوقف أمام باب المدرسة ويراني الطلاب أترجّل منها. 

  ظلّ ذلك السروال ملاصقًا لمؤخرتي، مُلتحماً بجسدي في كل شتاء يهبط علينا، ولم أتخلّص منه إلا بعد أعوام، أعوامٌ من لَحَظات العيون الهازئة، أخذتُه عنوة قُبيلَ فصلِ الشتاء، وألقيتُ به في برميل القمامة، ليس برميلُ القمامة القريب، لا .. بل ذاك البعيد هنالك، الذي لا تعلم أمّي مكانه.

 بعد ذلك اعتمرت الشماغ الأحمر الذي يصلُ طوله إلى نصف ساقي وكأنني نصبتُ خيمة فوقَ رأسي، فتناولته أمي في عجلةٍ وعقدت بأطرافه عقدة في منتصف جمجمتي، لكيلا يقتحم الهواء البارد رأسي عن طريق أذناي.

علَّمونا أن ندع الخلق للخالق, وأجهَزوا علينا آخر النفق ! 

داغر الفيش

عوداً على بدء، عوداً إلى المطعم ..


هذا المطعم يقع في زِقاق ضيّق، ضيّق كمساحة الطُرقات الموصلة إلى القُبور.

مطعم في أسفلِ عمارة متهالكة، لا يُدرى ما لونها لكثرة الملابس التي تتدلّى من الشبابيك، لوحة فنّية رُسِمَت على هذه الواجهة بالثياب والسراويل التي لا تُشبه لون سروالي، وبالجوارب المُخرّقة، وفي زواياها المُهملة دوّن أُدباء الحيّ والمُجَّان أجمل القوافي المعبّرة عن افتتانهم بالممرضة فريال التي تعمَل في عيادة الصدريّة في الملحق العُلوي.

مطعم بلا باب، بلا أقفَال، كأنما اختفى السُراق، كأنّما هَبَطَ على الأرض الأمنُ بعد الخوف، تُرى أين يكتنزون تلكَ الريالات التي يتقاضونها لقاء صحون الكبدة و الفول، في وقت كانت تُسلّم فيه مرتبات الوظائف نقداً في غُرَف المُحاسبين، فالبنوك آنذاك لم يفطِن دُروبها إلا الأثرياء.

مطعم لا يُسمع فيه إلا ضجيج المراوح، ومضغ الطعام في أفواه الجياع، صُورٌ للتوّ استيقظت من نومها، بعضُهم لم يُصافح الماء وجهه، أتى بين فاصل الحياة والموت ليبتلع طعامه ثم ينصرف قائلاً: "يا فتّاح يا عليم".

فوقَ طاولة الطعام تختلف الأيدي إلى الخبز الحارّ، هذه يدُ حمّالٍ وهذه يدُ بقّالٍ وهذه يدُ دهّانٍ، وهذه اليدُ الثقيلة لسكران جاء ليُطفئ النيران المُتقدة في داخله، فهو لم يتناول شيئًا من مغيب شمس اليوم الماضي، غير حبّات من الفول السوداني، قسّمها على عدد الكؤوس التي سيسكبها في جوفه.

يتحلّق هؤلاء الظُرفاء حولَ طاولة واحدة، ويدعو بعضهم بعضًا إلى تناول طعام الإفطار دون معرفة سابقة ولا لقاء قديم؛ لكَرمٍ أصيلٍ وسماحة غُرست في نفوسهم غرسًا.

مطعم تُلِيَت بداخله آلاف الحكايا والشكايا، استمعت إلى شِكاية ذلك الكهل المستعرض بقوّة رجولته، وأنها تعادل قوة أربعة من شباب اليوم، هذا الشباب الرّخو، الذي لا يُصلي الفجرَ في جماعة، وحين أراد أن ينصرف تناول عكازه، وحمل في يده الأخرى صُرّة مُلئت بالأدوية، ثم أردفَ يقول: قريبًا سأدعوكم إلى عُرسي.. أستودعكم الله.

وهذا داخلٌ مهيض الساق يعرج، كأنما عضّه الجوع في ساقه، ألقى السلام على الجالسين فردّوا في صوتٍ واحد: "وعليكم السلام، أهلاً عم قاسم"، العم قاسم من اليمن، جاوز الخامسة والخمسين من عمره، لم يتخلّف عن تناول طعام الإفطار في مطعمنا هذا منذ ثلاثين عامًا، إلا في نهار رمضان، يربط حول خاصرته حزامًا باليًا مهترئًا لا يضعه إلا من هانت الموضة والدنيا في عينيه، في الحزام جيبٌ واحدٌ يتيمٌ، يقعُ فوق كبد العم قاسم مباشرة، يقول: "حين أُسرَق أُريد أن ينتَزِع السارق كبدي مع الحزام لأموت فورًا، فالمال عديل الروح".

ومن الأحمق الذي سينتزع هذا الحزام ؟! فلو أن أحدهم وقع عليه مرميًا في الطريق لن يتناوله ولن يكرر النظر إليه، لن يأخذه إلا عاثر الحظ، الذي لعنه الله لعنًا كبيرًا، وألحق به سبعين كفلًا من العذاب. 

 حين استقر العم قاسم فوق كرسيّه شرعَ يُخاطب رجلاً في الجهة المُقابلة هناك، قائلاً له: "فلان، أبو صالح بلغني أنه توفي قبل أربعة أيام

- رحمه الله –"، فيرد الرجل في الجهة المقابلة: "رحمه الله، افتقدته الأيام الماضية"، كلّ هذا وأنا أتعجّب من هذه المعرفة والصداقة الغريبة القائمة في هذا المطعم، و وددتُ أن كُنتُ من أترابهم، أن تُرفعَ الكُلْفَةَ بيننا، أن نتخاطب بصيغة المفرد، أن أنتمي إليهم، أن يسمحوا لي يومًا أن أُدفعَ عنهم قيمة صحن الكبدة أو الفول؛ لمسرّتي بهم.

أذاع العم قاسم خبر الوفاة، فترحم الجميع على المُتوفّى ثم عاد كلٌّ إلى مائدته يأكل.

خرجنا من المطعم، مُتجهينَ إلى سيارة أبي، فجأةً توقف أبي ثم أخذ يتحسس باب السائق بيده، لقد خُدش الباب، باب سيارته المرسيدس مرتفعة السعر ! قال أبي: "لعن الله هذا الأعمى، ألم يُشاهد السيارة وهي بحجم كذا وكذا"، ثم ركبنا قاصدين بيتنا بحي السويدي المأنوس، وفي الزمن المقدّر للوصول لم يترك أبي أحدًا من أسرة الأعمى الملعون إلا وألحق به شتيمة تكفيهِ عارًا إلى قيام الساعة.

ها أنذا أعود إلى سوق الحلّة بعد ثلاثة وثلاثين عامًا قضيتُها هائمًا في سكك الحياة، ها أنذا أعود دون أبي، أعودُ وحدي، مُمسكاً بعودي وأوتاري، كما كان أبي بحنانه وقسوته ممسكاً بيدي، أعودُ وفي صدري ألحانٌ قديمة ألحانٌ تَعْتَمِلُ في صدري .. أتراني يا أبي؟!

وقفت على ناصية الزقاق، ها هو ذا طيفُ أبي وبجانبه الصبي، يتّجهان إلى المنعطف، الصبي الذي لم تُسْحَق نفسُهُ بعدُ بالفَقْد، الطفل الذي لم تَعْلَق القاذورات في أسفل حذائه بعد، الصبيُ الذي فُجع في أوّل يومٍ دراسيٍ له حين قال له تلميذ منحرف: "أتعرف كيف جئت إلى الدنيا؟" فقال الصبي: "من بطن أمي"، فيردّ الوَبَش التافه: "بل إنّ والدك فعل بوالدتك كذا وكذا، ثم جئت إلى الدنيا"، فأخذته رجفة، وتصبّب منه العرقَ، وشعر أنه سيسقط، أو هو سَقَطَ، فحُمِلَ إلى منزلهِ، ومكث فوق سريرهِ عددًا من الأيام من هول ما سَمِع، تعتلي البُثور وجهه، والروعة، والسواد.

هذا التلميذ أيّها السادة ابنٌ لحارس المدرسة، حارس المدرسة الذي أخذ على عاتقه أن يُرهق زوجته بكثرة الجماع حتى يسقط أحدهم ميتًا من فرط الإجهاد والنَصَب، ملأ هذا الحارس الحجرة التي أُعطيت له بدرزنين من الأولاد، أكوامًا بعضهم فوق بعض، يتقاحمون فيها تقاحُمَ القردة، وعندما تكون الحالة هذه فلا تسَل عن التربية والأدب.

هرعتُ أتحرّر من الذكرى، مُستعجلًا قضاء حاجتي، فدخلتُ دُكانًا لبيع الآلات الموسيقية أعرفه جيدًا منذ زيارتي الأولى لهذه السوق، بل إنني لا أكاد أعرف غيره، فرأيتُ رجلًا مُسِنًا يجلسُ في تواضع يختبر آلةَ كمان، بدت عليه أمارات الكِبْر، بدا في الستين من عمره، لم أُطِل النظر فيه وأخذتُ أسأل عن جيّد الأوتار وجديدها، فاخترت نوعًا مناسبًا لذوقي وأرجأت تركيب الأوتار التي أحضرتها معي إلى حينٍ آخر، بعد ذلك انتظرتُ أمام باب الدكان فإذا بالرجل المُسن يُقبل وهو ينظر إليَّ في حيرةٍ، فقال: " ألن تُلقي السلام ؟! " فنظرتُ إليهِ مستغربًا ولم أُميّزه، فتفحصتهُ طولًا وعرضًا في شكٍ لمعرفتي أن هذه السوق تعجُ بالمرضى والمجانين.

       وبعد برهة تبيّن لي أنه معلّمي الأول الذي درّسني -مدة عشرة أيام - أبجديات آلة العود، فأقبلتُ عليهِ في تأدُب المُعتذر، وصافحته وقبّلتُ رأسهُ واحتضنته وقلت له: "مرحبًا بأستاذي، أهلاً بمُعلّمي .. عُذرًا !".

بعد السلام والسؤال عن الحال، قال لي: "لوهلةٍ اعتقدتُ أنك تتجاهلني فتألمت يا ولدي، تألمت كثيرًا لتكرر هذا الفعلة من الذين كانوا لي أصدقاء"، فقلت له: "معاذ الله يا أستاذ أن أتجاهلك أو أنه عنَّ لي في يومٍ أن أكون ناكرًا لك متناسيًا أفضالك؛ لكنه طول العهد وعمل الزمان في خِلقةِ الإنسان، لقد تغيرتَ كثيرًا"، قال: " أنت كذلك يا ولدي، تغيرت واتسعَ جبينك وكثُرَ الشيب في رأسك المتحجّر، أما تزالُ غبيًا معاندًا كما عهدتك يا تيس ؟! " وقد كان المُعلّم ابن نكتة -كما يقولون -.

لقد رأيت فعل الزمن في وجه معلّمي، برزت تجاعيد وجهه، واختفت أسنانه ولم يتبقَ له منها إلا سبعة أو ثمانية، وبان فيه الضعف، وعلَّمت فيه قساوة الفقر، ومثلما تألم هو لظنه أنني تنكرت له، تألمت أنا حقيقة مما رأيت، فقد عهدته في شبابه -وقد كان في أواخر الثلاثين - ظريفاً يحب الفكاهة، نُكاتُه متجددة، يمازح المارّة ويشاكس أصحاب الدكاكين المجاورة، كان عنوانًا للسخرية والمرح.

كان يهتمُ بي جيدًا، ولا أنسى قوله في يوم ما: " أنت سِمّيعٌ - أي أذنك موسيقية -؛ لكنك تهمل التمارين ولا تطبقها وتتجاهل نصيحتي لك "، ولم أُغفِل أنه يقتني لي الأعواد الجيدة ذات الثمن المتوسط، أذكرُ مرةً أنه اتصل بي في الساعة التاسعة صباحًا على غير عادة وميعاد، ليقول لي: "اقتنيتُ لك عودًا صوته جميل بثمنٍ تستطيعهُ، تعالَ في العاشرة وخذهُ سيُعجبك"، فأتيته كما قال فوجدت أن الآلة كما ذكر لي تمامًا، وأعلمُ الآن أن ثمنه فوق ذلك بكثير؛ لكنها الحاجة التي دعتهُ إلى أن يتنازل في الثمن.

بعدَ أخذي آلة للعود بزمن يسير، طلب أحدهم أن يستعيره مني لتسجيل بعض الأُغنيات، فذهب به ولم أره بعدها إلى ساعتي هذه، لم يستطع أن يُقاوم جمال صوت العود فقال لي معتذرًا: "لقد هشّمَ أبي العود فوق رأسي"، وقد كان والد هذا الصديق يذهب إلى صلاة الفجر قبل الأذان بثلاثين دقيقة، وفي طريقهِ يوقظ الناس في مهاجعهم بتكرار النداء "صلوا، صلوا"، بصوت عالٍ جدًا، كصوت الذي يستنجد من السُراق.

حقًا .. لقد عرف كيف يجلبُ عُذرًا لا مناص من صدقيّته؛ لأنني مررتُ بهذه التجربة غير مرة، ففي مجتمعنا الذي يمارس هذه الآلة يُصبح في مرمى السهام الناقدة المُستَنكِرة.

أثناء عملية تركيب الأوتار جلستُ ومعلمي نتبادل الأحاديث والذكريات الجميلة، فهذا اللقاء جاء بعد ثمانية عشر عامًا من الانقطاع بيننا، تناول المعُلِّم أثناء ذلك آلة الكمان وشرع يعزف لنا مذهبًا جميلاً كجمال ذوقه الفنيّ، وبعد أن انتهى كانت عملية تركيب الأوتار قد انتهت، فأردت أن أدفع المال لصاحب الدكان فحاولت أن أُماكس الرجل ليُخفض الثمن، فقال لي: " لقد اتفقنا على السعر قبل التركيب ! "، فقال أستاذي: " أنت لا تعرفه، هذا التيس يُحب أن يُماكس إزعاجًا لا لتخفيض الثمن".

حينها هممت في الانصراف فودعتُ أُستاذي بقُبلةٍ على جبينه على أن يبحث لي عن آلة عود نادرة.



 .. وداعًا أستاذي صلاح الحربي .. وداعًا أيُّها الصبيُّ إلى الأبد.


Join