سنسوداين

 وقائعٌ غريبة تكسِرُ الصورة النمطية للقهر

بابٌ في قهر الرجال ..

قهر الرجال هو ذلك الشيء الذي يقلبُ الدول عاليها سافلها، و صورة ذلك القهر دائما ما تكون تافة و حقيرة لا تُرى حين تخرج.

كلمة أو عبارة يقولها أحد المعاتيه ثم ينتهي الأمر بجثثٍ عاريةٍ معلّقة على أعمدة الإضاءة, بعضها تم سلخها.

هذا معمّر القذافي كان من الممكن أن يفطس في هدوءٍ تامٍ حين يُستضاف في أحد القصور هاربًا، وفي أضعف أحواله أن تُداعِبَ جمجمته رصاصة انبعثت من مسدس فينتهي أمره، ثم تنسج حوله قصص الشجاعة، لا أن يُقتل وقد فجّر أحد المقهورين بواسيره بقطعة خشبية، إنها نهايةٌ ليست سعيدة.

و نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - تعوّذَ من قهر الرجال وغلبة الدَّين، وحتمًا أن النبي الكريم لم يتعوذّ إلا لأمر خطير قد يُحْدِثُهُ القهر في النفوس و الأوطان.

قد يُقهر الرجل العظيم ثم ينزوي في بيته كالكلب إلى أن تحِلَّ به سكتة قلبية تسوقه إلى قبره، وقد يُقهر الرجل ثم يخرج بسلاحه فيُزهقُ روحَ شقيقه المواطن وهو يقف أمام إشارة المرور مُحترمًا القوانين، وقد يتطوّر الأمر فتنطلق بعض الرصاصات لتستقر في إحدى أملاك الدولة فتتلفها ثم يُودَعُ المقهور في السجن إلى أن تتحلّل جثته.

وإنّي لمقهورٌ أيُّها السادة ..

قبل أشهُرٍ شاهدت في يوتيوب مقطعًا لرجلٍ غربي، استفاق من نومته ليُفاجأ برؤية كلبه وهو يلبس طقم أسنانه الاصطناعية - أسنان صاحب الكلب - ، فأخذ الرجل يضحك مما رآه في سخرية لا مثيل لها.

كيف لهذا الكلب معرفة الأسنان الاصطناعية !، كيف استطاع أن يمسك بها ويضعها في فمه، بل كيف اتفق أن يكون مقاس فك الرجل مطابقًا لمقاس حجم فك الكلب ؟!

قبل شهرين من نشر هذه التدوينة، خضعتُ لعملية زراعة أسنان، ولو أنني قلت: " خضت " لم أكن كاذبًا ولا مبالغًا، فالعملية شبيهة بمعركة عسكرية، حين يجتث الطبيب خمسةَ عشر ضرسًا في خمسٍ و عشرين دقيقة، هل تُسمّى هذه عملية جراحية ؟ الحكمُ لكم.

حين دخلتُ العيادة كنت أحملُ في يدي رواية دوستويفسكي الفقراء، وحين خرجت منها كان أخي يحملني، والفقراء في الرصيف المقابل ينظرون إليّ خِلقَتي في شفقة.

يمّمنا شطر المنزل وأنا ألعن الفريق الطبي كلٌّ باسمه، وأن يمسخهم الله إلى هيئات يستحقونها، وأدعية أخرى ليس من المروءة ذكرها الآن، قلت كل ذلك رغم معرفتي مآلاتُ ما أنا بصدده.. ولن أعتذر.

دخلت المنزل فإذا أمي أمامي، وحين رأتني شرعت في البكاء، فالدماء قد بلغت الرُكَب، أخذت تتساقط تساقط لُعَابْ المجانين الذين نراهم في الأفلام.

اقتادني أخي إلى غرفتي، ثم أضجعني فوق سريري، وولّى هارباً، فقد كانت الأخلاق بريالٍ - كما يقولون -، وعروق رأسي تنبض من الغيظ والألم معًا، والكلمة التي فيها مواساة تحوّرها أُذني إلى شتيمة .. وهكذا.

قضيت بعد عمليّة الخلع هذه عشرين يوميًا هي من أعنف و أشدّ الأيام التي مرت بي، أيام شبيهة بأيام المحكوم بالأشغال الشاقة وهو في أغلاله أيام فصل الربيع، فالعذاب الروحي بيننا مشترك، وإن كانت المشهد مختلفًا.

عشرون يومًا أيها السادة أتذوّق طعم الدم، عشرون يومًا ابتلع فيها الطعام المهروس خالي النكهة الذي لو وضع لي بدلا منه الحصى لما شعرت بفارق كبير، عشرون يومًا أيها السادة من الصداع الفتّاك.

حين تسلّمتُ طقم الأسنان المؤقت، شعرتُ أنني تسلّمت شهادة حفظ البخاري و مسلم، أو شهادة الدكتوراه في التعامل مع النفايات المشعّة، فرحتُ به كفرح الأطفال في نهار العيد، خرجتُ من العيادة وأنا أصفّر كالعصفور، ولم يسبق لي أن صفّرت في حياتي، فالتصفير هو ( المكاء ) وهو من خصال الجاهلية، ومن مساوئ الأخلاق؛ لكنّ عقلي حينها كان قد انسلَّ من رأسي.

الآن عادت إلىَّ روح الحياة، وإن كانت ليست بحياة كاملة، إلا أنها تبقى حياة، فالموت الذي قد مرَّ بي في أيامي السالفة لا يُشبهه شيء، هأنذا ابتلع " بيتزا هت " و ما طاب لي من الطعام، واتحدّث حديثًا مفهومًا، فلن اضطر بعد الآن إلى إعادة الكلام سبعين مرة ليفهم المتلقّي ما أريد، أبتسم .. إنني أبتسم، غابت البسمة عن هذا المحيّا الذي ما فتأ يضحك و يُضحك الدُنيا.


ثم ماذا .. 

تناولت طعام الغداء متأخرًا قريبًا من الساعة السادسة، ثم خلعت أسناني المؤقتة لتنظيفها بالفرشاة و المعجون، وموادَ أُخرى مطهرة، و وضعتها فوق الطاولة التي أمام المغسلة، ثم هرولتُ إلى مكتبتي وفي يدي حافظة الشاي، وقرأت ما شاء الله أن أقرأ، دون أن أرتدي أسناني المُصنّعة لراحة أشعر بها في حين عدم الارتداء.

عدتُ في الحادية عشرة للبحث عنها أريدُ تناول الطعام، أين هي تلك الأسنان ؟ لا أحد يدري !

بعد بحث طويل و عناء كبير: تبيّنَ لي أن الخادمة قد أَلقت بها في القمامة، فذهبتُ مسرعًا إلى الخارج لعلّي أجدها في البرميل الحكومي، 

تبًّا .. يبدو أن سيارة البلدية قد جاءت مبكرة هذا المساء -  على غير عادة -  فطارت بأسناني إلى مكبّ النفايات الكبير.

إنّي مقهور أيُّها السادة ..


في هذا المساء وفي المساءات اللاحقة، بل من هذه اللحظة أعودُ كما كنت فارغَ الفمِّ بلا أسنان، أعود للأكل المهروس، للجلوس وحيدًا في قبوي.

ألا ليتني لم أضحك على ذاك الرجل في يوتيوب، إني امرؤ فيَّ جاهلية، كأني لم أقرأ عن قهر الرجال والسخرية بهم .. ..

.. لن أُكمل !

 

حررت هذه التدوينة بعد ثلاث دقائق - تحديدًا - من ضياع الأسنان، مدة الكتابة إحدى عشر دقيقة .. يا لهذا البرود !

و السلام على من اتّبع الهدى.

Join