ذاكرة غراس
العيش داخل قنينة عطر
مؤخرًا أجد من نفسي الميل إلى العطر لا أعني مسألة الاستخدام,إنما الميل إلى اكتشاف كُنه هذا العالم الخفي الشبية بعالم الشياطين,الدخول إلى هذه المغارة التي لا حدَ لها ..
فالعطر يمر بي في كل يوم إما رائحةً أو قراءةً أو سماعًا و مشاهدة.
العطر كالموسيقى ينقلنا إلى أزمنة أخرى، العطر بطاقة سفر إلى الذكرى، أو رحيل القلب إلى الحلم للعطر صوت يهمس: أذكريني
غادة السمان
إلا أنني لا أملك الوقت لدخول هذه الدنيا الجديدة فاكتفيت بسؤال الأصدقاء الذين لهم عناية بعوالم العطور ..
فوجدت أنني لست على شيئ سنوات عمري الماضية,والتي ضاعت في متاجر العطور المقلدة-مُكرهاً-وفي أحسن الأحوال عطور الديزاينر ذات الرائحة المستهلكة,التي نستنشقها في كل مكان.
سألت صديقي ماجد:
يا عالمًا بالعطور أخرجني من هذه التبعية العطرية ؟
فقال لي: بلاك ما تعرف النيش ؟
حين استمعت هذه اللفظة اعتقتدت أنها شتيمة أو أنه يقدح في ذوقي رغم قناعتي أن ذوقي في العطور عالٍ وكذلك أبي-رحمه الله- بشهادة المحبين المنصفين,حتى خِلت أنني أنفُ !
والأنفُ هنا:تعني الأستاذ في عالم الصناعةالعطرية,أو اُستاذ العطارين, ولا نعني بالعطارة,محالّ العطارة المعروفة الأن:ابن منقاش وغيره,وإن كانت جزء من الصنعة,فالحلبة وجوزة الطيب ورجل الأسد وعين الجمل وشوك القنفذ هذه للحوامل من النساء والأطفال الذين استشكل عندهم النطق الخ الخ ..
إذن الأنفُ في وصفٍ واقعيّ: هي شخصية قريبة من شخصية الرائي الذي عتمد عليه الدولة في رؤية هلال رمضان لاعتماد الصيام,الرائي الذي ُتحترم نظرته للسماء.
وأنفُ الأنفِ هو رأس المال,فأنفه ليست كالأنوف التي نتمتع بها ولا تخدعك المشابهة !
فأنفه صمم وفقَ عدة مرَاحل,مرحلة تلو أخرى:
مرحلة الاستعداد للاستنشاق,ومرحلة الاستنشاق نفسهُ,ثم مرور الرائحة بصمام اسطواني مدمج به خلايا عصبية بملايين الأعداد وهي تتكاثر مع تقدمه في المهنة,ثم تمر بمرحلة الفرز والتدقيق,ثم بمرحلة التخزين والتسمية الخ لخ ..
ولكي أختصر عليك المسألة,أنف الأنف كأنه مبنى البنتاغون في واشنطن الداخل فيه لابد أن يغربل تاريخه منذ ولدته أمه حتى وقف أمام الأجهزة فوق البنفسجية التي بدورها حددت لون البوكسر الذي يرتديه.
وكما أن الأوفياء في الدنيا قليل,فالأنوف كذلك في الدنيا قليل,قِلّة هم إذ يبلغ عدد أكابر الأنواف في هذا الكون قريب من خمسين أنف !!
من هؤلاءالأنف:جان كارلوس 1892- 1966م كذلك تلميذه الأنف:جاك بولغ ومونيك شلنجر,ومن المشاهير,الأنف:هنري آلمرز 1892- 1965م كذلك الأنف:إرنست دالتروف 1867-1941.
يمكننا أن نعتبر مدينة غراس الفرنسية هي مستقر لهؤلاء الأنوف فهي قِبلتهم وموطنهم الآخير,كالبابوات في كاتدرائية نوتردام.
وتشيرُ الدراسات إلى أن هؤلاء الذين يملكون أنوف كالبنتاغون يستطيعون تمييز أربعة آلاف مكون من الرائحة إلى عشرة آلاف مُكوّن ..يقومون بهذه المهمة كما يقوم الطفل بإدخال أصبعه إلى جمجمته مرورًا بأنفه .. فسبحان الوهاب.
على أية حال:أرسل إليَّ ماجد قريبًا من ثلاثين قنينة صغيرة لتجربة عطور النيش واكتشاف العالم الحقيقي لمعنى الرائحة,فوجدت ما جعلني استقبل القبلة وادعو غاضبًا على المحال والمتاجر في سوق الثميري والمعيقلية و شارع السويلم !
ليلة تمرين ..
عطرك السافر فضح ورد البساتين .. وكثر الكلامبدر بن عبدالمحسن
ماذا وجدت ؟
حقيقة التجربة مختلفة إلى الغاية, هل أحدثك عن الرائحة؟ عن الثبات؟ الفوحان؟ التميز؟ سؤال الأصدقاء .. المارّة في الطرقات؟
تجربة:جعلت مني جان باتيست غرونوي حي السويدي,غرونوي الذي خرج من المدبغة النتنة إلى إحدى مغارات جبال كنتال,و لمن لا يعرف غرونوي هو بطل رواية باتريك سوزكيد [العطر].
تجربة:جعلتني أُبصر بأنفي كما أبصر الأسطورة آل بتشينو في فيلم [عطر امرأة] عندما ساقته رائحة العطر إلى مراقصة المرأة,تلك الأمنية الأخيرة التي تحققت بفضل عطرٍ شقَّ طريقة إلى أنف الأعمى قبل أن ينتحر, ليسُدلَ السِتار على ثلاث جوائز أوسكار كانت من نصيب عطر المرأة دون مبالغة.
تجربة: أثبتت لي أن رشّةً واحدة من عطر زيرجوف لاتوسكا أقوى فعاليةً من حُقن الفيلر والبوتكس,ونحت الخصر ,وابتسامة هوليوود القبيحة,أقوى فعالية من فلاتر سناب شات ومن ذاك الزمآم الذي تضعه تلك الفتاة في شِفّتِها السفلى وقد غدا كأنه من بقايا شوربة الجريش التي تناولتها على الغداء.
تجربة:جعلتني أغبط حراس ديل بايوت المتحف العريق ببرشلونة الذي ضمَّ خمسة آلاف رائحة,ومئات الزجاجات والقوارير الثمينة,وددتُ أن عملت هناك ولو بالمجان, أطوف بالزوار بين الركن والآخر,أُرتِّل على أسماعهم أدعية العشاق ,الغارقين في وحل المعبودة.
.. نلتقي وأنتم في زجاجة عطر
لِعَبق الرائحة الطيبة قدرة على الإقناع أقوى من الكلمات و نور العين و الشعور و الإرادة
باتريك سوزكيد