هَواجِس
المُتَداوي بالسيَر الذَّاتيّة
هأنذا أعودُ فأكتبُ عن أحمد أمين رحمه الله هذا الرجل الذي
وجدتُ حياتي مطبوعة في حياته التي خطّها، وفي العلم الذي أخذه
.جلال أمين عن الحياة، وفي ورحيق عُمرهِ المطبوع
كتبتُ عن المؤرّخ الأديب غير مرة في يومياتي، لفرط إعجابي به
ولا أعلم عن كُنه هذا الإعجاب، ألشخصيته، أم لعلمه، أم لمُجرياتِ
حياته وما مر به وعاناهُ، رغم الفارق الكبير بيننا، أأقولُ بيننا ؟
!.. من أنا
أُردِّد في أحايين كثيرة أن ألوان التربية التي كانت في وقته كانت
نهايتها في أوّل حياتي، هذا إذا راعينا شخصية المولد البكر و
تربيته، طفلٌ لبشرَينِ للتو عرفا معنى الأبوّة و الأمومة، والآباء
في هذا على ناصية طريق، إما يمينًا أو شمالاً، إما الرأفة و الدلال
.أو الويل و الثبور، ومنهم من يجمع بين ذلك
قبل أن أتزوج كان لدي ستة نظريات في تربية الأطفال, أما الأن فعندي ستة أطفال وليس عندي نظرية لهم
جان جاك روسو
لن أدّعي المظلومية ولن أستدرُ العاطفة، فقد تجرّعت اليمين و
الشمال بسخاء، وتقبّلتُ ذلك برحابة صدرٍ لا نظير لها، ولم أقُل لهما أف ولم
.تتورّم أشداقي و تنتفخ
ما يدعوني لكتابة هذه المقدمة الملتوية غير الواضحة و المملةِ
أيضًا في تدوينتي، هو ما مر بي أثناء قراءة سيرة جلال أمين،
حين تحدث عن والده وقال أنه في شُغلٍ دائم عنهم وأن الحديث
معه يكون مقتضبًا، كأسئلة الاختبارات - سين / جيم - وأنه ندم في
أخر حياته ولمّح أو صرّح أنه يتحسر على ذلك، وأن ليسَ في
استطاعته أن يكون إنسانًا آخرًا، بل ويقول أحمد أمين: أنه
بالمقارنة بوالده فقد كان في قمّة الانسجام معهم، والتبسّط !
هذا ما أتذكّره من حديث جلال عن أبيه، ولم يكُن أبي بعيدًا عن
والد أحمد أمين في سماته الشخصية، وأسلوبه في التربية، إلا أنه
كانت تعتريه لحظات يخلع عنه التكلّف، ولا أدري حقًا أهو تكلّفٌ أم
هذه حقيقته، وأقرب الظن وأصحه أنها حقيقته.
ومما أذكرهُ عنه أننا إذا خرجنا إلى البرية تتوقُ نفسي إلى سياقة
السيارة كما يفعل أترابي، فيقول لي بعد أن ألححت عليه: أنت
لست تماثلهم، أنت رجل مثلنا، ويُشير بيدهِ إلى الجالسين
وأصغرهم قد جاوز الخمسين ! والغريب أن ما يقولهُ لي أعتقده
صوابًا.
وليس ذكري لهذه الحادثة إلا لأنها غصّتٌ في نفسي لا تزال عالقةً
رغم تفاهتها.
ولو عدّدتُ أمثال هذه الحادثات لملأت هذه البيضاء عن آخرها.
ثم .. وبعد عشرات السنين، أجدُني أفعل وأقول كما كان أبي معي!
أهذا توافق، أم عقدة علقت بي، أم هي طِباعُ تسري في الدماء؟
فعلت مع أولادي تمامًا ما كان فعلَ والدي معي، إلا أنني توقفتُ
فجأةً عند الألم المصاحب والندم والتحسّر، بعد القول و الفعل،
توقفت للتفكّر، لا وقوف المتراجع، فأخذتُ أقول لابد أن ما مر بي
حينها، قد مرَّ بوالدي، لقد ندم، وتحسّر، أشعر بخيبة أمل مما
يمارسه تجاه ولَده .. و من يدري ؟ أنا الذي أدريهُ الأن، مؤكدًا أنه
شعر بذلك.
لذلك أقول: داووا أنفُسكم بالسير الذاتية، فإني وجدت بها مالم
أجدهُ في الحياة، وفي الرجال الحكماء، وأهل الرأي و المشورة.
فكم من حادثة جرت علينا وحرنا في تفسيرها أو معالجتها،
وجوابها مسطّر في سيرة مكتوبة مطبوعة، تجدها في المكتبات لا
تكلّفك إلا مال قليل، ففي هذه السيرة حياة، حياة رجال وأمم، ودول
و ممالك، وفيها من الحوادث والقضايا التي لم تمر بك ولن تمر
بك، لخطرها أو لتفاهتها.
وما ذِكري لحياة أحمد أمين إلا صورة للشعور الذي اعتراني في
أجزاء من حياتي، هذا وأنا لازالت من أهل الثلاثين، فكيف بي وأنا
في بحر الأربعين، ومن أهل الخمسين، ورفيق للكهولة في الستين
.. فاللهم سلّم، اللهم سلّم.