أكتب كي لا أبكي
ولست متأكدة إن كنت لن أبكي بعدها
الإنسان الذي يملك سببًا للكتابة، أعني سببًا مجديًا مفيدًا مثريًا.. لهو محظوظ. نحن محظوظون متى ما امتلكنا رأيًا يستحق أن يذاع، أو فكرة نشعر بمسؤولية نشرها، أو علمًا أو شغفًا نود أن ننشره بين الناس لامتاعهم أو إثرائهم أو لكليهما..
والأشخاص كثيري التذمر محظوظون كذلك، وإن كانوا علة ونقمة على من حولهم، إلا أنهم في نعيم؛ إذ يخرجون كل ما يثقل أرواحهم رميًا بالكلمات؛ ليهنئوا خفافًا بعدها، ليتني كنت منهم..
أتمنى اليوم أن أكون منهم ولست أعني ذلك، لكني أغبطهم لتلك الميزة الوحيدة، وأنا أُصرح في نفس الوقت أنني أكره نسبتي لهم، بل وأتحاشى أن أتصرف أو أتحدث بشيء يُشبهُني بهم ويرسم لي خطًا يتقاطع مع دوائرهم المفرغة الفارغة..
وإن كانت الدنيا سترميني في يومٍ ما وبحالٍ ما لأكون شخصًا يشبه أولئك المتذمرين فأنا اليوم أُحَضِرُ ما سأعلل نفسي به حينها.. سأذكر نفسي أن المتنبي واحدٌ منهم، وسأبتسم كثيرًا، بل وسأنصب ظهري باعتزازٍ معزيةً نفسي بتشبهي بأبي الطيب ولو في أسوأ صفاته.. أليس من أعترف وأقر بذلك في بيته حين قال:
ألا ليت شعري هل أقولَ قصيدةٌ.. فلا أشتكي فيها ولا أتعتبُ؟
لكني لم أكن منهم، فلطالما كتبتُ تعللاً بأسباب الكتابة المجدية، وإن كنت في حقيقة الأمر أوظف تلك الأسباب كحجة زائفة.. لأقنع نفسي بها؛ بينما أنا أحتاج أن أكتب أكثر من أنني أود، أحتاج ذلك وفعل الكتابة يفيدني أنا في المقام الأول ولا يستهدف إفادة القارئ وحسب، تتكرم علي الكتابة ولا أتكرم بها، وتأخذني الكتابة لمكان رحبٍ واسع في وقتٍ تضيق به الأمكنة عليَّ.
الآن مثلًا، أكتب هذه السطور وللمرة الأولى بأنانية كاملة وبعبارة صريحة أقول فيها أنني أفرغُ حاجتي للكتابة وحسب، أكتب اليوم كي لا أبكي، ولست متأكدة إن كنت سأبكي بعدها أم لا.
أكتب هربًا من أشياء كثيرة وبحثًا عن أشياء كثيرة والتماسًا لأشياء كثيرة.. أكتب وأكتب وأكتب ويخيل لي أنني ألهث، أريد أن أرتمي الآن على الأرض من شدة التعب، أريد أن يتسارع نبضي من هذا الجهد، وينقطع نفسي الطويل، وأتوقف من شدة الإجهاد لأرتاح بعدها..
أكتب اليوم كي لا أبكي، ليس لأن البكاء عيبًا، إلا لأنني أشعر بالهزيمة اللاذعة إذا ما تذارفت عيناي بالدموع، واليوم على الأقل.. أشتهي أن أنتصر بنصٍ عوضًا عن أن أرتمي لأحضان هزيمة بخيبة مبللة.
تلك الدموع يُخيل لي أنها الحيلة البائسة، والعذر الواهن، والسلاح الناعم الذي لم نجد سبيلًا للضرب به، فاشتاط ذرفًا بنا رغمًا عنا؛ ليثبت ماديته وليلعب دوره هو الأخر في ذلك المشهد، واليوم أكتب لألغي دوره، ولأبطل تمرده، ولأعصيه أنا بجبروت نصٍ لا جدوى منه..
أكتب اليوم وقد جربت أشياء كثيرة قبل الكتابة، لكنها رفضتني، فلم تحتويني ولم تداويني، أطرق الآن باب الكتابة.. الباب الأخير، الحيلة القليلة، طمعًا أن أرتمي في أحضانها مرتاحة بعد شدة التعب.
أكتب اليوم كي لا أبكي، وليتني أحسن تطبيق السببية إذ بذلت السبب..