رسالةٌ من شخصٍ لا يجيدُ التعاملَ مع الخسارات

رسالةٌ مني إلي


نولد أطفالًا ثم هكذا نكبرُ فجأة، تسير بنا الحياة فلا تتوقف لكننا نتوقف في صفحاتها كثيرًا، ويحدثُ أن تكبرَ في يومٍ عشر سنين بينما تمرُ عليك سنينٌ عِدة لا تكبر فيها يومًا واحدًا. فكيف يحدث ذلك؟ هل أخطأنا في شيء ما؟ وهل الخطأ خسارة في كل الأحوال؟ وهل تعاملنا مع هذه الخسارات قصور منا؟

هل الخطأ خسارةٌ في كلِ حال؟

قرأت في مقالات عدة وبحوث محكمة أن نشأة الطفل سبب رئيس يؤثر في كل ذلك، ابتسمت بأسى حينها.. أنا فعلًا لم أكن طفلة بسيطة، لم أرضَ بأي خسارة، بل وأنني في مرحلة ما أضمرت إبداء غضبي حين أخسر؛ لئلا أكون المزعجة التي تبكي حين تنهزم، لكنني كنت أبكي بأي طريقة وفي كل حال. تذكرت جيدًا أنني لم أفرح يومًا بالمركز الثاني؛ بل أنبت نفسي كثيرًا وبحثت عن نقطة التقصير التي أقصتني عن المركز الأول، وتذكرت جيدًا أنني طمحت وسعيت أن أكون الطالبة المثالية في كل مراحلي الدراسية؛ الأمر الذي يرضيني ويؤكد لي أنني فزت على الجميع وباختيار الجميع، فكيف وبعد كل ذلك أستسهل الخسارات؟

الأمر الطريف في ذلك كله، أنني أنظر للموضوع اليوم كشخص غريب ينظر من بعيد وأضحك لتذكري للشعور الذي كان يعتريني حينها، كنت ومنذ ذلك الحين أشعر بأنني في مأزق، فأهذب تصرفي وتعاملي مع الموقف قدر استطاعتي، كان الشعور يؤنب فيني حبي للفوز بالأفضل، يؤنبني حين أرفض الأقل وإن كان جميلا، لماذا لم أمتثل لذلك الشعور؟ لماذا أقف بعد تلك السنين وأبحث عن طرق التعامل مع نفسي كطفلٍ يعرف الطريق لكنه يخافه.

 

اليوم كبرت وأصبحت الخسارات أكبر، أكبر من لعبة مونوبولي، وأكبر من سباق كراش، أكبر من ترتيب المتفوقات، اليوم أصبح الأمر أصعب من أن أخفيه، أصعب من أن أضمره فلا أبكيه، أو أستصغره فأتجاهله. يتدفق من قلبي قبل عينيَّ، يسلبني راحتي ويقض مضجعي، يشغل تفكيري ويمتثل أمامي شبحًا أسودًا يرمد زهوة الألوان من حولي، أكذب ألف مرة لو قلت إنني مسلمة لكل ما أمر به بقناعة تامة، رغم إيماني بالله وتفويض أمري له إلا أن شيئًا ما في داخلي كان لا يزال شقيًا بالخسارة ولا يحسنُ التعامل معها.

وهل من معلمٍ يهذبنا أكثر من الخسارة؟

ولعل كل ذلك، أشقاني ليهذبني، وهل من معلمٍ يهذبنا أكثر من الخسارة؟ تكسر جبروتنا، تطمس هالتنا، تعرينا من الزيف وتلقي الضوء مسلطةً جل قوتها على الحقيقة، شئنا أم أبينا، منتصرين نحن أو في الجبهة الأخرى من الحرب كنا، هي لا تبالي، بل تقع وحسب.

 

ولأنني كذلك، أثرت ألا أخسر أمام هذا الشعور، ألا أنكسر أمام الخسارات فأعلن خسارةً مضاعفة، وسعيت كثيرًا لذلك لأكسب راحتي، ولأقدر ما أنا فيه، ولأدرك ما أنا عليه. فلا شيء أنفع للإنسان أكثر من أن يعرف نفسه، أين محلها وماهيتها، ولا شيء يحقق ذلك في نفس الإنسان أكثر من الخسارة، فأصبحت أسأل نفسي: هل الخسارة فعلًا عدوي الذي أهابه؟

 


إن كان كذلك.. فعدوي هذا علمني الكثير!

إن كانت كذلك، فعدوي هذا علمني الكثير.. تعلمت أنني حين أخسر لا أخرج خاوية اليدين، فإن لم تكن نشوة النصر فمتعة التحدي، وفرصة جديدة لإعادة حساب بعض الأمور، وفسحة لتطوير قصور أو تهذيب شعور، وتعلمت أننا نحتاج أحيانًا أن نخسر، لنتذكر كيف بدأنا وأين يجب أن نكون، فالنمط المستقر من الحياة يكفل لنا الراحة، والتلذذ بالراحة والاستمتاع بلذتها الخفية ينسينا أن نسعى للأفضل بشقاء وكد. وتعلمت أيضًا أن الخسارة إذا أتت على شكل فقدان مركز أول، أو خسارة استثمار، أو فقد عزيز، فهي سلب شيء كنا نمتلكه أو نصبو إليه، ولا فرصة أعظم من هذه لترتب الذهن وتصفيه لاستدراك النعم والقيم التي تجملنا ونحيا بها، إذ أننا كبشر نغرق في الحياة بنعم عدة نعتادها فلا نعاد نميزها، حتى نستسهلها فلا نعيرها اهتماما؛ لأنها موجودة بالأمس، واليوم وغدًا، فغفلتنا هذه تشقينا أكثر، فنبحث لنيل غيرها، بحثًا عن شيء أكثر، شيء أجمل، شيء أجدد، وما نبحث عنه شيء واقع بين أيدينا إلا أن أعيننا اعتادت على رؤيته فلم تعد تميزه.


وتعلمت كذلك، أن أحزن، أن أعطي الحزن حقه بلا إفراط ولا تفريط، لا هروبًا بل مواجهة، وأن أشاطر الأمر مع من أحب، ليس فضفضة أو شكوى بل ربما بعشاء يجمعنا، كوب قهوة، أو محادثة عابرة ألتمس فيها لطفهم ودفئهم فينير عتمة داخلي كضوء يتسلل لحيز غرفة مظلمة فيحييها. وتعلمت ألا أخوض بعض الحروب وأن أقول لها لا قبل أن أخسرها، وتعلمت كذلك أن الحكم قاصرٌ وجائرٌ في أحيانٍ كثيرة إذ أن بعض الخسارات التي يعدونها في حسابهم خسارة أنتشي أنا انتصارا بها وأضيفها لقائمة أمجادي، وأكثر ما تعلمته.. أن أغمض عينيَّ وأعدد النعم التي في ومن حولي، وعن يميني وعن شمالي ومن تحتي ومن فوقي.. لأدركها.

Join