المحبُ ڤينسنت..

الفنان.. الكاتب والإنسان.



أكتب هذا المقال بعد أن شاهدت فيلم “المحب ڤينسنت” الذي رُسِمَ بالكامل يدويًا من قبل فريق يتألف من قرابة الـ 100 فنان أو يزيد. كل مشهدٍ منه لوحة، وفي كل لوحةٍ منه قصة، وفي كل قصةٍ منه عنوانٌ لشجنٍ اسمه ڤينسنت.

 

الفيلم أعظمُ ما يمكن تقديمه لتقدير شخصِ الفنان ڤينسنت، تحفةٌ فنية تشبه بعضًا مما أورثه وخلدَّه في هذا العالم.. يتحدثُ عن قصةِ وفاتِهِ ولغز رحيلِهِ تحديدًا في عام 1890 وما قبله من أعوامٍ بما تحويه من دلائل وشهادات.

يبدأ الأمر دائمًا بالرسائل التي لا يقرأها أصحابها

يُصرُ ساعي البريد “جوزيف رولن” على إيصال رسالة ڤينسنت الأخيرة التي كتبها إلى أخيه ثيو، الرسالة التي لم يقرأها صاحبها ولم يتمكن كاتبها من إرسالها إذ وافته المنية قبل تحقيق ذلك. يقع عاتق إيصال الأمانة على “رايموند” ابن جوزيف، ورايموند أحد الأشخاص الكثر الذين كانوا يكرهون وجود ڤينسنت في حياته ويبكونه بعد مماته.. لن أستطرد في شرح تفاصيل القصة أكثر، فهي لا تُخفى عليكم، ولعل الفيلم بمتعته البصرية أجدر بأن ينقلها لكم عوضًا عن اصطفاف الكلمات في هذه السطور ..

أين بدأ الأمر؟ ما المؤثر الأقوى؟ كم من الأذى تحمل؟ كيف لم يحتويه قلبٌ في هذه البسيطة كما احتوته تلك اللوحات الصماء؟ هذه التساؤلات التي تدب في ذهني حين أرى لوحةً من لوحه..


لوحُهُ التي يعرف كل شخصٍ ينظر إليها ما أحاول وصفه الآن.. فنحن حين نشاهد لوح ڤينسنت لا نبصر أسلوبًا فريدًا، أو فنًا مختلفًا بلونٍ مغاير وحسب، بل نسمعُ صوتَ أنين، نبصرُ شظايا مأساة، نشعرُ بدهشةٍ يكسوها شجن، نرتبطُ بصاحبِ تلك اللوحة أكثر من اللوحة نفسها، نعي أنهُ يحاولُ أن يروي لنا شيئًا، لكننا ندرك أننا لم نفهمه، ولن.

حارب الحزن بالفن

طفلٌ منبوذ، مراهقٌ ضائع، شابٌ لم يفلح في تحقيق حلم والديه، أخٌ فارق عضيده الوحيد، مغتربٌ وحيد، فنانٌ مهمش، نازحٌ ينبذه سكان القرية، صديقٌ مهجور، مستهدفٌ قد أجمع الناس على طرده، مُحبٌ مخذول، مريضٌ يبحث عن علاج، عاشقٌ محروم.


اجتمع هذا كله في شخصٍ واحد.. اسمه ڤينسنت، قابلَ كل هذا السوء.. الطفلُ المراهقُ الشابُ الأخُ المغتربُ النازحُ الصديقُ الوحيدُ الفنانُ المستهدفُ المحبُ المريضُ، كل ذلك.. بمفرده. 

كم من ڤينسنت بيننا؟

بين إفلات يد أمه له وعويلها على فراق طفلٍ يسبقه، وبين إيماءة رأس والده استياءً من تعثره في العمل، وبين فراق أخيه وتوقفه عن دعمه، وبين إطراق باب منزله معلنًا رحيل صديق عمره، وبين الصمت الذي يعصف بضوضاء نفسِه، وبين رواياتٍ ناقصة اشتغل الناس في حياكة معانيها، وبين تآمرٍ تكسب فيه من كان يراه نكرة تسعى، وبين وبين.. حارب ڤينسنت بريشته، الحزن بالفن. 


لكن رحيل هذه النكرة، الفنان المهمش، والنازح المنبوذ المشهور عليه جنونه، كان حزنًا يسكن قلوب كثيرين ممن كان لهم فصولٌ وبطولاتٌ في إشعال صفحات حياته بالمآسي وإنقاص زهوتها بألوان الكمال والجمال. 


ڤينسنت حاول وجاهد لإصلاح حاله، بالتداوي وبالسفر وبالسعي لتغيير الظروف، لكن تسلط المحيط البشري والظروف المؤثرة يظل له منحنى آخر لا يختاره الإنسان ولا يملك قدرةً على التحكم فيه. 


رفض ڤينسنت إسعافه بعد الإصابة التي كانت سببًا في وفاته.. قال لأخيه ثيو: “دعنا نناقش الحياة لا الموت”، اختار أن يموت، وأختار أن ينعم بقرب أخيه في آخر لحظات حياته مستلذًا بحديثه.


ثيو أمده بالأمل الذي عاش به بقية حياته، فحين مسك ڤينسنت الفرشاة لأول مرة كان يبلغ من العمر 28 سنة، بعد تشجيع أخيه له في سلك مجال الفن عوضًا عن المجالات الأخرى التي لم يجد نفسه فيها. وبذلك الأمل عزم على الرحيل إلى باريس، ذهب إليها كما يذهب إليها جميع الفنانين، قدوةً بمونيه وتولوز وسينياك وغيرهم، فقد كان الجميع يذهب إلى باريس؛ لأن كل ما يحدث في عالم الفن يحدث في باريس.


تبقى المفارقة أن باريس كانت الوجهة التي ينتهي إليها وبها الجميع؛ لكنها بالنسبة لڤينسنت لم تكن كذلك، بل كانت محض محطة تزود بها على المعرفة التي يحتاج إليها، ومن ثم غادرها ليرسم بعدها وابتداءً منها دربه الخاص.


وبعد ما يقارب 8 سنوات تمكن ڤينسنت أن ينتقل بفنِهِ من هاوٍ إلى فنان مؤثر! لم يدرس الفن بل تلمذ نفسه، وصنعَ مدرسته وأقرَّ أسلوبه، ورغم ذلك، لم يُباع في حياتِه إلا لوحةً واحدةً، ولم يكن ڤينسنت يرسم وحسب، بل كان يكتب كثيرًا، فقد كتب أكثر من 800 رسالة، أغلبها لأخيه ثيو، وكان يجيد الفرنسية والألمانية والإنجليزية فضلًا عن لغته الأم الهولندية، ومات عن عمر يناهز 37 سنة فقيرًا معدمًا.


وبعد وفاته تحديدًا في عام 1901 عُرِضت 71 لوحة من أعماله في إحدى معارض باريس وبدأت شهرته بالاتساع. واليوم، ڤينسنت يعدُ أحد أفضل الفنانين وقد بلغت أعماله 2100 عمل فني، أغلبها يُصنف ضمن أغلى الأعمال الفنية بالعالم، فقد بيعت لوحته "Irises" بـ 53.9 مليون دولار، وبيع البورتريه الذي يصور الدكتور غاشيه بنحو 82.5 مليون دولار.


هل كان ڤينسنت يدرك ما يفعله؟

بعيدًا عن نسج الروايات التي تُروى والتفاسير التي وضعت ولم يتثبت منها شيئًا بتأكيدٍ تام إلا أن حقيقةً واحدةً لا يمكن تأويلها وهي أن الوحدة والمشقة التي تكبدها هذا الإنسان نفسيًا واجتماعيًا مبررٌ لا غبار عليه لتفاقم حالة السوء التي تتابعت عليه. إن الفن الذي تنقله لوحات ڤينسنت ينم عن عمقٍ وإدراكٍ تام لكل ما كان يشعر به، وما يكابده ويعيشه، تخبرنا عن شخصٍ حاولَ أن ينقل معنى الألوان، الحياة، المشاعر التي يشعر بها الوحيد للعالم أجمع.. 


أعي جيدًا أنني أجهل أبعاد المرض الذي عاناه ڤينسنت، وما وُرِثَ له من سجل عائلته المرضي من اضطرابات وغيرها، وأعي جيدًا أن القدر نافذٌ لا محالة وأن ما يصيب الإنسان مكتوبٌ له قبل ولادته بما في ذلك من فصول أجله ومعاشه، إلا أنني أقف أمام قصة هذا الإنسان.. حزينة عليه.


وكذا أحزن أمام كل فعلٍ يصطبغ بلونٍ من القسوة ذاتها، أمام كل شخصٍ يهمل بذات الطريقة، أمام كل حبٍ يصفع بنفس اليد، أمام كل أملٍ يُسلب بكل عنجهية، وأمام كل سعيٍ لا يلقى كلمةً طيبة، ثغرًا باسمًا، حضنًا دافئًا وملاذًا يلوذ إليه ويحتمي به من جور ما يقابل، فرفقًا بنا منا. 


أمام الأعلام الذين نعاصرهم اليوم.. الذين أُجلُّهم وأعرف أنهم أصحابُ شأنٍ عظيمٍ ومجدٍ تليد سيلقونه لا محالة.. أسقط حالتهم على ڤينسنت.. وأتذكره بهم، أعني “ماذا ننتظر لكي تُعاد الكرة مرارًا؟”.. رحل الفنان الإنسان الكاتب، فلماذا تُباعُ لوحاته بثروات باهظة اليوم بعد إن كان لا يلقى قوت يومه، لماذا تُدرَسُ حالته باهتمام واجتهاد بعد إن عانى حتى فاضت روحه، لماذا تُصفِقُ له الكفوف الآن بعد إن نفضت الأيادي جدواها منه..


وإني لأجتهد وأتعمد بإرادة وبغير إرادة أن أنتشي سعادةً وغبطةً في التعبير لكل شخصٍ يبهرني، لكل عملٍ يفتنني، لكل فعلٍ يعجبني، ولكل كلمةٍ تلمسني لأقول لها بأنها ذات أثر ومحل فخر وأهلٌ للاعتزاز؛ ولكي أذكرها ليس إلا أن الكون يزدان بها، ويضيق بنقيضها.


أعرف ڤينسنت منذ صغري، إلا أن هذا المقال ظلَّ رغبةً وأمنيةً تخالجني لسنين عدة، كنت أتمنى لو حققتُها في كتابتِه تقديرًا لفنِه وشخصِه، وحين عزمت على كتابته بقيَّ مسودةً لمدةِ ٤ أشهر وما يزيد عليها، فلم أستطع إتمامه إلا بصعوبةٍ بالغة..


حاولت في هذا المقال.. أن أذيع صوتَ شعورٍ يصطلني أمام شخص ڤينسنت.. لا المنتحر، لا المجنون، لا المريض.. بل المحب، الإنسان، الفنان.  

I want to touch people with art. I want them to say: he feels deeply, he feels tenderly.


Vincent Van Gough
Join