عن الذين رحلوا الى غرفة باردة منسيّة، وتركونا هنا، وسط كل هذه الوحشة.

هذي التدوينة بالذات قررت اكتبها بالعامية، عشان ما اعرف كيف اوصف هذا الكم من الكلام بالفصحى، ولا اتوقع اني اقدر..احيانًا في ناس بحياتنا من شدة وجودهم وحضورهم بكل مراحل حياتنا واحداثها نحس انهم باقيين هنا معانا للأبد، مخلدين، موجودين في كل لحظة، داخل كل فرحة وضحكة، يدينهم بتحتضنا عند اول انهيار وعند اول دمعة، ما فكرنا بيوم ان ممكن هاليد تغيب، وهالنظرة المطمئنة اللي يطالعونا فيها بكل مرة يكون القلق مفترسنا وفجأة نهدى من نظرتهم، شي بداخلنا يستقر ويستكن، ما خطر ببالنا اننا بنفقد هالنظرة، ولا توقعنا اننا بيوم بنروح ندور على صور عفوية صورناها لهم عشان نرجع نحس بالنظرة..ماتوقعنا يغادروا الدنيا هذي بيوم، ولا توقعنا اننا كل ما نجيب اسمهم بتلحقهم دعوة”الله يرحمه”..ما توقعت اجرب الم الموت والفقد، ماتوقعت اني اروح ادور على صور عشان لا انسى وجيههم، ولا توقعت اني بتعود على عدم وجودهم مثل اول، بكل لحظة سعيدة وحزينة، ماتوقعت اصلاً اني اشتاق لهم، لانهم دايمًا كانوا حولي، معايا، المسهم واسمع ضحكتهم وتلامسني نظرتهم، كانوا هنا..اول مرة سمعت فيها جملة”انتقلت الى رحمة الله”كنت فيها هادية،وكأن سطل ثلج كبير انصب فوق راسي، تجمدت، ودموعي تحجرت طول ايام العزاء، مابكيت ولا انهرت، كل اللي كان ببالي ان كيف؟كيف راحوا؟مو هم معنا وحولنا دايم وحسهم موجود؟طيب مو المفروض على الاقل نودعهم؟طيب كيف بنعيش بدونهم بعد اليوم؟هل بنعتاد على هذا الفراغ اللي خلفوه بسبب غيابهم؟كنت امشي بين الناس وانا جثة، لاني ما كنت أعي معنى الموت، كنت احسب ان الموت يسلب الكبار بالسن، او اللي عندهم امراض مميتة، او على الاقل السيئين، ما كنت واعية ان الموت بغتة، يسرق منك اللي تحب حتى لو كان بعز شبابه، كل شي صار بشكل بطيء ثقيل على القلب كأنها ساعات جاية من جهنم، خبر الوفاة، العزاء، الاعتياد على الفراغ، الحِداد، كان اكثر شي يرعبني اني انسى وجيههم، كنت مؤمنة ان الموت للحين ما اخذهم طالما اني ما نسيت وجيههم، وكل يوم، بالمعنى الحرفي، كنت اعيد صورهم الموجودة بذاكرتي عشان لا انساها ولو للحظة، وكان اكثر شي يحزني، لما نكون بمناسبة سعيدة، بس لسا مكانهم موجود، ولما احد يذكر اسمهم ويخيم الصمت على المكان، ماكنت اقدر اتقبل حقيقية انهم راحوا خلاص، ما كنت اقدر اقول الله يرحمهم بعد اسمهم، لاني مو مستوعبة انهم خلاص راحوا، كنت احس ان قلبي زي الحجرة اللي نرميها في البحر وتغوص تحت، بعد مدة طويلة بدأت استوعب انهم راحوا خلاص، صار في جدار بيني وبينهم، ما اقدر المسهم ولا اكلمهم ولا احضنهم، او على الاقل ابتسم لهم، وقتها انهرت بالكامل، تركت نفسي، حتى النوم كنت انامه مع مخلفات دموع، كل جزء فيني كان يصرخ من الالم، وبعدها فهمت، ان والله، كل اشتياق في الدنيا يهون قدام اشتياق لميت، فكرة اني ما اقدر اتكلم معاهم واقولهم عن مشاعري كانت تخنقني بكل ليلة، وفكرة ان صوتهم غاب عني للأبد كانت تموتني بشكل بطيء، اكتب عنهم دايمًا، وبكل مرة اكتب يكبر وجعي، وتتجدد جراحي، بس ما بيدي حيلة غير اني اكتب واعبر، على امل ان يهدى الحزن اللي ساكن جوا من خمس سنين، هذي التدوينة كاملة في ذكرى أمل الله يرحمها، اللي كانت فعلاً أمل لكل شخص حولها، ولنا، ولأطفالها، وكيف كانت خفيفة كريشة، وبشوشة كالبهجة، وكانت دايمًا متعجبة من احداث العالم وتستنكرها، زي كأنها ضيفة في الدنيا هذي فترة وتمشي، وفعلاً..مرت خمس سنين، ويمكن الناس اللي حولنا نسيوا، بس انا ما نسيت، كل سبت اتألم، كل سبت ادعي، كل سبت اجدد العزاء، لأن العالم خسر شيء عظيم، ماكانت مجرد خسارة عابرة، لا والله، كانت خسارة كلفت الكثير، خسار انحفرت في قلوبنا قبل ذاكرتنا..للحين بس اسمع خبر وفاة احد حتى لو ما اعرفه اتوجع، ودموعي تهتز وداخلي يرجف،كأني اعيش هذاك اليوم من اول وجديد، وانا للحين ما اعرف، كيف نكمل الطريق والحياة حتى بعد فقدانهم، او بالاصج فقدان جزء من انفسنا..بس بعد ما تجرب فقد الموت لأحد عزيز عليك بتستوعب بعدها، ان كل فقد من بعدهم يهون، بتحس ان مهما خسرت ما يفرق، لانك اصلاً خسرت اللي يهمك وتحبه..اذا قرأت هذي التدوينة وخطر ببالك شخص عايش، نصيحتي الوحيدة روح كلمه، الفقد لحظة سريعة زي البرق، بتخيم على حياتك للأبد لو ما استغليت الفرصة، محد يستاهل ينام كل يوم وهو يقول: ياريتني ودعتهم او عبرت لهم، واللي خسروا خسارة كبيرة مثلي، الله يجبر خواطركم، وخواطرنا.


Join