ساعي البريد جوزيف!

جميعنا نعرف من هو فنسنت فان جوخ، وان لم نكن نعرف قصته فنحن بالتأكيد شاهدنا احدى لوحاته المشهورة مثل ليلة النجوم تلك اللوحة التي كانت السماء فوقها بلا حدود، ونجوم لا حصر لها تتلألأ وغيرها الكثير من اللوحات، لا اعرف ان كنتم على معرفة بلوحة ساعي البريد المجهول الذي خلده فان جوخ داخل لوحته، ولكن انا شخصيًا تربطني علاقة وثيقة وعميقة مع هذه اللوحة بالذات، سلبت قلبي فجأة بنظرة واحدة وكأن داخلي قد ضرب بصواعق، يهتز جوفي عندما اراها بالرغم من ان لا شيء يميزها بالنسبة للاخرين، هذا الساعي اسمه جوزيف رولان، وكان يسلم رسائل فان جوخ الى اخيه ثيو، بشكل يومي ودائم، فان جوخ يبعث العديد من الرسائل الى اخيه ثيو، بعد موت فان جوخ-لم يمت منتحرًا كما يعرف البعض-اكتشف ساعي البريد جوزيف ان هناك رسالة كتبها فان جوخ لأخيه ثيو وغفل عن ايصالها ثم ارسل ابنه للعثور على ثيو وتسليمه تلك الرسالة ولكن ابنه لم يجد ثيو لانه قد توفى بعد ستة اشهر من وفاة اخيه فان جوخ، عندما اتأمل اللوحة الاحظ ان ساعي البريد ينظر اليّ، لا اليّ على وجه الخصوص لكن الى وجه الذي امامه، اشعر ان في هاتين العينين يمتد داخلها عالم عميق يتخطى الزمن، فمه مطبق بشكل يوحي لك انه بائس، كمن يريد ان يعترف بشيء داخله لكن عاجز لشدة ثقله ، عند النظر اليه يبعث لك احساسًا بأنه يشبه تلك اللوعة الهادئة وهذا اكثر ما كان يجذبني بهذه اللوحة خصيصًا، احيانًا يخطر ببالي اننا نشبه بعضنا البعض في نقطة محددة، وهي اننا دائمًا نغفل عن رؤية شيئًا ما، او ندركه متأخرًا بعد فوات الاوان بكثير..ربما الرسالة التي غفل عن ايصالها كانت ستغير موت ثيو وفان جوخ؟ربما كانت ستغير تاريخ وقدر بأكمله؟من يعلم..لا احسد جوزيف ابدًا، لا اتمنى ان يخلد اسمي في التاريخ ويذكرني الجميع عبر لوحة رسمها فنان غفلت عن ايصال رسالة مهمة لأخيه قبل وفاته بشهور قليلة، لكنه احساس عجيب، شخص ليس لديه اي مؤهل للخلود وتقوده الصدفة الى لقاء فان جوخ حتى يخلده التاريخ والفن الى يومنا هذا، اشعر ايضًا ان فان جوخ يشبهني في نقاط عديدة، فهو بالنهاية من رسم بيديه ساعي البريد، ان فان جوخ مختلف عن الرسامين جميعًا، حتى طفولته كانت مختلفة، مشبعة بالاسى، فهو الاخ الاكبر، لكن قبل ولادته كان يوجد لديه اخ يحمل نفس اسمه وتوفى، لذا انجبته امه ليحل محل اخاه الذي توفى، لك ان تتخيل ان تحيا بأسم اخاك المتوفي، ومن حولك لا ينظرون لك، بل لأخاك الذي رحل ولكنه يقبع داخلك، داخل اسمك، وهكذا مضت طفولته، بكره واسى ورغبة فان بأن يحقق حلم والدته ويعوض مكان اخاه الاكبر، لكنه فشل وقرر اتباع حلمه بالرسم، بدعم خالص وصادق من ثيو المحب له دومًا، وهكذا عاش مثل غراب متمرد على السرب، كانت صفة الانعزال مهيمنة عليه طوال حياته، لا صداقات كثيرة ولا اقامة علاقات، وتصرفات تراها مجنونة دومًا، كقطع اذنه مثلاً! طوال عمره كان غامضًا بمثابة لغز يعجز عن حله الجميع، حتى طريقة موته كانت غريبة، وحده كان يعلم كيف قٌتل، لكن لم يفصح عن الذي تسبب في قتله لا لأخيه ثيو ولا للطبيب الخاص به، كان قد اغلق على سره هذا في علبة صغيرة ودفنها في اعماقه، ولم يخبر احد عنه حتى عند احتضاره بجانب اخيه، يقال انه عندما توفى مات وفمه شبه مفتوحًا، مثل الذي يريد ان يقول شيئًا مهمًا مصيريًا، ولكن الموت كان اسرع، مات وفي داخله رصاصة تنهش احشائه، ولم يساعده احد، حتى اخر لحظة في حياته كان يـتألم، لم ينعم بموت هادئ على الاقل، وبعد تلك الحياة الحافلة باليأس و الاتهام بالجنون من مجتمعه، اصبح يخلده الجميع، الى الابد، محفورًا في زوايا تاريخ الفن بشكل واضح، وهذا اقل ما يقدمه العالم لشخص ولد ليعوض وفاة شخص اخر، وعاش بائس، ومات مغتالاً بائسًا ايضًا..في النهاية افكر، هل اريد ان اكون في قصة فان جوخ ذلك الساعي الذي يخلد بلوحة من رسمه واغفل عن ايصال رسالة لأخيه؟ام اريد ان اكون تلك الرصاصة التي ادت الى وفاته؟ام فرشاته التي لا يستغني عنها؟ام ربما ببساطة اريد ان اكون احدى لوحاته المشبعة بالألم، او ربما، على الاقل، اكون ثيو، ذلك الاخ المحب دومًا، وانت؟لك حرية اختيار دورك في حياة فان كوخ، وبطيبعة الحال، لك حرية اختيار عدم القيام بأي دور.


Join