زوربا يتقيأ الكرز
نتفلكس في زمن الكورونا ٤
في التدوينات السابقة حاولت أن أسرد لكم معاناتي في العزلة، ربما معاناتي ليست الكلمة المناسبة ! أشعر بأن استخدامها هنا هي أقرب ماتكون لمعاناة صاحب البرج العاجي الذي اضطر في ظهيرة يوم مشمس الى السير قليلاً في حديقة قلعته بدون مظلته الصيفية الذي نسيها في الداخل! ولكن أثق بأنكم ستغفرون لي تلك التعابير المجازية وستكملون قراءة التدوينة.
قلت أنني وقعت في مأزق وقت الفراغ الطويل واستحواذ نتفلكس على أغلبه، واستعباد مقدراتي البصرية والحسية في متابعة عشرات البرامج والافلام والمسلسلات، ودخولي في دوامة ترفيهية عويصة. لا أخفيكم أني حاولت التخلص منها والخروج من هذه الدائرة المفرغة مراراً، ولكن سرعان ما اقع فيها مجدداً منكباً أسوء من قبل كحال أي مدمن لم تطل فترة انقطاعه حتى يعود أكثر جموحاً.
ولكن، ولحسن حظي، حتى وأن خانتني نفسي الآمارة بالسوء، فإن ابن جزيرة كريت البار لم يدعني أفقد نفسي في الهاوية! تذكرت إحدى حوارات زوربا اليوناني التي مع باسيل المثقف حينما زارا دير الرهبان وغضبه على عزلة هؤلاء مع وجود رغبات لم ينالوها، قائلاً : ”انا عندما أرغب في شيء ما، أتعرف ماذا أفعل؟ إنني آكل منه حتى التقزز كي أتخلص منه ولا أفكر به مطلقا، او أفكر به باشمئزاز.“ يواصل زوربا حديثه : ”عندما كنت طفلا، كنت مجنونا بالكرز. لم يكن لدي مال كثير. لهذا كنت لا أشتري كثيرا منه دفعة واحدة. وبعد أن آكل ما اشتريه، تظل بي شهوة إلى المزيد منه. كنت لا أفكر ليل نهار إلا بالكرز، ويسيل له لعابي، وأتألم حقا! لكنني ذات يوم غضبت بشدة، أو بالأحرى خجلت، لست أدري على الضبط! لقد أحسست بأن الكرز يفعل بي ما يشاء وبأن هذا يجعلني مضحكا، إذن ، فما الذي فعلت ؟ نهضت في الليل خلسة، وبحثت في جيوب أبي، ووجدت مجيدية من الفضة، فأخذتها، وفي الصباح الباكر ذهبت إلى بقال، واشتريت سلة من الكرز، وجلست في حفرة، واخذت بالأكل. وأكلت وأكلت حتى انتفخت بطني. وبعد فترة أخذت بطني توجعني وتقيأت وتقيأت ... ومنذ ذلك الحين انتهت قصة الكرز . بل إنني لم أعد أستطيع حتى أن أتصوره . لقد تخلصت . صرت أنظر إليه وأقول : لست بحاجة إليك . وفعلت الشيء نفسه فيما بعد مع الخمر والتبغ . انني لا ازال ادخن ، واشرب . لكن عندما اريد ان أكف ، أكف . إن الرغبة لم تعد مسيطرة علي.“
وصفة زوربا مكنته تحرير نفسه كإنسان، يقول: ”والشيء نفسه بالنسبة للوطن، لقد رغبت فيه فأكلت منه حتی الشبع، و تقيأت و تخلصت منه، تخلصت من الوطن، تخلصت من الكاهن، تخلصت من الماء. إنني أغربل نفسي. كلما تقدم بي العمر، غربلت نفسي أكثر . إنني أتطهر، كيف أقول لك؟ إنني أتحرر، إنني أصبح إِنساناً“.
اللعنة! هل ينجو زوربا وأغرق أنا!
لذلك حزمت أمري، وأتخذت قراري، سوف استمر بالمتابعة، لن أحارب رغبتي لمشاهدة نتفلكس، بل سأسعى للاستفاده منها وتطويعها حتى أتقيأها، ولم أجد إلا طريقة واحدة، الكتابة.
ألم يقل كافكا بأن الكتابة هي شكل من أشكال الصلاة! فلا بد من فعل مقدس كهذا أن يساعدني على التخلص من السموم في حياتي، أليس كذلك !؟
ولأني ممن يحب أحمد خالد توفيق على قلة وفائي في قراءة الكثير من إرثه، إلا أن نصيحته مازالت ماثلة أمامي : ”لا أحد يكتب من فراغ ولا أحد يستلهم أفكاره وهو جالس يتأمل فوق جبال الهيملايا .. إن وجداننا الجمعي وعقلنا الباطن محشو بما قرأناه أو عرفناه من قبل .. فقط نضيف لهذا موهبتنا ورؤيتنا الشخصية“.
وهل في وضعي هذا سأجد محفزاً للكتابة أكثر من نتفلكس! خاصة مع وسيلة منظمة ومجربة لا تختلف كثيراً على حيلة زوربا اليوناني !
عزيزي المتصفح ، في حال أنك نقرت بأصبعك على أسفل الشاشة استعجالاً لقراءة الزبدة، فلن أخيب ظنك :)
نعم ، قررت أن آخذكم معي في رحلات تدوينية حول مشاهدات مختارة وجدتها في نتفلكس ورغبت في أن أقول شيئاً عنه، ربما استدراك لواقعة حدثت فيها، أو تعليقاً عليها وتحليلاً لمضمونها.
هل فقدت حماستك !؟ في هذه الحالة أرجو على الأقل أن تشاهد فيلم زوربا اليوناني بطولة الاسطورة انتوني كوين ، لعل ذلك يغفر لي عندك.
ولبقية القراء النبلاء، غداً اخذكم في رحلة الى نهاية العالم.