قراءة في حالة الفن سياسياً
الدبلوماسية الثقافية عبر الفنون (١)
نعايش حالياً مرحلة كثر فيها الحديث عن القوى الناعمة من ضمن أدوات الدبلوماسية العامة، خاصة بعد اطلاق رؤية ٢٠٣٠م التي أرست مرحلة جديدة نحو الاستفادة القصوى من مواردنا ومقدراتنا الطبيعية والصناعية في سبيل تعزيز مصالحنا الاستراتيجية وضمان تنمية مستدامة لبلادنا.
واذا ما فهمنا بأن الدبلوماسية هي لغة الخطاب بين الدول في الخارج لتأمين المصالح للدولة ودفع الضرر عنها، فإن الدبلوماسية العامة تعني الخطاب بين الشعوب والنخب بشكل خاص، وهي وإن كانت الدبلوماسية بشكلها الأعم تعمل على عقد الصفقات والتفاوض وتقديم الحلول التي ترتضيها الاطراف المختلفة، فإن الدبلوماسية العامة تعمل على بُعد أكثر بكثير من حيث ترسيخ صورة ايجابية عن الدولة ومكوناتها من الشعب ونظامها وثقافتها عند الشعوب والنخب التي تستمد منها بصورة أو بأخرى الدبلوماسية في بلادها.
أن للدبلوماسية العامة وسائل كثيرة ومتنوعة للغاية، وسبر أغوارها والحديث عنها سيطول ويتشعب، لذلك أود أن أقدم هنا سلسة من ثلاثة مقالات تركز على مفهوم واحد فقط وهي "الدبلوماسية الثقافية" ومن خلال عنصر واحد رئيسي وهي "الفن التشكيلي". وهي :
قراءة في حالة الفن سياسياً
تجارب الدول في ممارسة الدبلوماسية الثقافية
التجربة السعودية في الدبلوماسية الثقافية
لاشك، بأن هذا يبقى جُهدً مقل، وموضوع بهذه الأهمية الحيوية يتطلب المزيد من البحث والتوثيق للخروج بنتائج وتوصيات مقننة، لذلك لنشبه هذه المقالات الثلاثة ب "مقبلات" ونترك العشاء الحقيقي للمختصين والمتهمين من الاستاذة والباحثين المقتدرين.
في ذروة الحرب الباردة كانت المدرسة التعبيرية التجريدية قد استُغِلَّت من برنامج الدعاية الحكومية الأمريكية. إذ أظهرت بعض التحقيقات أن معظم المعارض الدولية التي عملت على نشر فكر المدرسة التعبيرية التجريدية، وخصوصًا تلك التي نظمها متحف نيويورك للفن الحديث (MoMA) في أواخر أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، جرى تمويلها سرًّا من وكالة الاستخبارات الأمريكية بهدف الترويج لصورة «أمريكا الحرة» بفنها الحر المعاصر كبديل عن للفنون الهابطة (kitsch) التي روجت لها الشيوعية السوفييتية.
الدبلوماسية الثقافية
أعاد مؤتمر موندياكلت (اعلان مكسيكو ١٩٨٢م) تعريف الثقافة بتضمينها ليس فقط الفنون والآداب وإنما أيضاً نهوج الحياة والحقوق الأساسية للإنسان وأنساق القيم والتقاليد والمعتقدات، واعتمد تعريفاً جديداً للتراث الثقافي يشمل الأعمال المادية وغير المادية التي يعرب بها الناس عن قدراتهم الإبداعية مثل اللغات والطقوس والمعتقدات والمواقع والآثار التاريخية والأدب والأعمال الفنية والمحفوظات والمكتبات. وجاء أيضاً في إعلان مكسيكو أن كل ثقافة من الثقافات تمثل مجموعة فريدة من القيم التي لا غنى عنها إذ إن كل شعب من الشعوب يتخذ تقاليده وأشكال تعبيره وسيلة ليثبت وجوده في العالم. وبهذا المعنى، يشير الإعلان إلى أن الهوية الثقافية والتنوع الثقافي لا ينفصمان وأن الاعتراف بوجود طائفة متنوعة من الهويات الثقافية حيثما تتعايش مختلف التقاليد إنما هو ما يشكل جوهر التعدد الثقافي.
وأذا ما أرتكزنا على هذا المفهوم في دينماكية عمل الدبلوماسية الثقافية فعلينا أن نتحدث عن أكثر الأساليب المتعارف عليها لممارستها كما يجب، وهي مايصح استخدامه في الداخل والخارج أيضاً، بل أحياناً يجب أن تكون متكاملة بهذا الشكل، وهي كما ذكرها الدكتور سعود كاتب مؤلف "الدبلوماسية العامة، القوة الناعمة السعودية في عصر ثورة المعلومات" أحداها أنتقاء جزئية محددة من ثقافة البلد بحيث تكون قادرة على التأثير في المتلقي الخارجي وإثارة أعجابه، مثل أستضافة المهرجانات والعروض الفنية والمعارض المتخصصة أو المشاركة فيها. والأسلوب الآخر بالإمكان أختصاره بأنه تصحيح صورة نمطية محددة عن بلد معين، كالعنصرية أو اقصاء المرأة وغيرها من القضايا التي قد تعمم على بلد وشعب ما من خلال عقد أنشطة ثقافية تستهدف تلك الجماهير والنخب منها.
قد يكون هذا مادعى الحكومة الأمريكية في منتصف الخمسينات الميلادية لرعاية وتمويل جولة موسيقية عالمية للأوبرا الأمريكية "Porgy and Bess" لتصحيح الصورة السلبية الأمريكية كبلد مازال يمارس العنصرية ضد السكان من أصول أفريقية. أسلوب آخر مهم في الدبلوماسية الثقافية يعني بأستثمار القطاعات التعليمية في المنح والدورات التدريبية كنقطة جذب لإستضافة الطلاب الدوليين، وهذه مسألة فعالة للغاية ونقطة قوة عظيمة لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال. أضف إلى ذلك عشرات الأساليب الأخرى، فهل تستطيع تخيل أن الولايات المتحدة لربما لم تكن حالها يختلف عن النرويج بالنسبة لأجزاء كثيرة من العالم لولا هوليود وصناعة الأفلام الأمريكية !
قراءة في حالة الفن سياسياً
في المشهد الفني سادت اثنتين من المبادئ حول ارتباط الفن بالسياسة، أول هذين المبدأين، هو فكرة أن الفن الحقيقي يجب أن يبقى محايداً وبمعزل كُلي عن الاهواء السياسة، تحاشياً لأن يفقد الفن نزاهته متى ماوقع في فخ الميول السياسية. أما المبدأ الثاني، يرى بأن على الفن أن يجهر وعلى رؤس الملأ بميوله السياسية وأن يعبر بشجاعة عن أراءه الاجتماعية والبنيوية وإلا سيكون مجرد محاولات افلاطونية ورجعية لا ترتقي للواقع. وأيما كان المبدأ الأمثل فأن الشواهد من حولنا تؤكد بأن الإنتاج الفني لطالما تأثر بمختلف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة به، وأن السياقات التاريخية السياسية شكلت الكثير من الأعمال التي تعد عظيمة في يومنا هذا، فتمثال مايكل أنجلو الشهير "داوود/ديفيد" الذي أبدعه بطلب من مدينة فلورنسا هو تعبير سياسي صريح بالبهجة لطرد الحكام من عائلة ميديتشي، وكذلك لوحة "وفاة مارات" التي رسمها عام ١٧٩٣م الفنان الفرنسي جاك لويس ديفيد والتي تصور لحظة احتضار الزعيم الثوري الفرنسي الدموي جان بول مارا حال أغتياله، تعد واحدة من أشهر الصور التي وثقت الثورة الفرنسية.
والذي زار مقر الأمم المتحدة سوف تتملكه الدهشة في تأمل لوحة بيكاسو الجدارية الشهيرة ”غرنيكا" التي استوحاها من قصف مدينة غرنيكا الأسبانية، حين قامت طائرات حربية ألمانية وإيطالية عام ١٩٣٧م، وكانت حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية كلفت بابلو بيكاسو بذلك. وفي الأدب والموسيقى والأفلام عشرات الأمثلة وهي تثبت جميعها بما لا يدع مجالا للشك أن لا تناقض على الإطلاق بين التوجهات السياسية والإبداع الفني في أعلى مراتبه.
ولكن من نافلة القول بأن الفن مازال أوسع من أن يختزل في دعاية أو نقد سياسي، إذ هو يستجيب لمدى واسع من الاحتياجات البشرية ومشاعرها مثل الميلاد، والموت، والحب، النور أو المطر، واليأس أو الأمل. منظر التلال والأشجار، وخطوط وألوان المبانى، ولعب وألم الأطفال، ودراما القدر، باختصار كل شيء، فطالما أمتلك الفن تعبيراً قوياً، ومحركاً للمشاعر، وجميل وأصيل، وينمي وسائلنا في التواصل (المرئي، اللغوي أو الموسيقي) فهو بالتأكيد يفيد الانسانية ويثريها.
إيرانيون أقرب للبيت الأبيض من طهران
أذكر في بدايات الألفية وبعد غزو العراق وتشابك الوضع السياسي وتعقيداته في المنطقة خاصة بعد إجتياح الاجندة الإيرانية الساحة السياسية العراقية وبينما التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وايران بسبب عدة ملفات منها برنامج ايران النووي في ازدياد مطرد ومتسارع، قامت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية انذاك بزيارة معرضاً فنياً متوسط الحجم يحمل عنوان "امال وأحلام" شارك فيه ٣٠ فنانا ايرانيا على ضفاف نهر بوتوماك في العاصمة الأمريكية واشنطن. قامت وزارة الخارجية الامريكية على إثر ذلك بإصدار بياناً تؤكد بإن هذه لفتة لاظهار الدعم للشعب الايراني وإن الخلاف بين الولايات المتحدة ينحصر ضد النظام الايراني المتطرف. على الرغم من أن المعرض أقيم بالتعاون مع جامعة طهران الوطنية إلا أن وزارة الخارجية الأمريكية نفسها أسهمت في رعايته! وهذا يتسق مع توجه إدارة الرئيس بوش ذلك الحين الذي كان يشدد على مزيد من العزلة السياسية والاقتصادية على إيران إلا وأنه في نفس الوقت دعا إلى مزيد من الاتصالات مع الشعب الايراني.
قد يكون من المنظور القصير بأن مثل تلك السياسات تتناقض مع نفسها، ولكن المضطلعين بمجريات العالم السياسي يرون أن ذلك ذكاء دبلوماسي صرف يتجاوب مع أحدى أهم مكوناتها، إلا وهي استخدام القوى الناعمة من خلال تفعيل الدبلوماسية العامة. ففي الدبلوماسية تتعلم بأنه مهما كانت الخصومة مع نظام ما على المستوى السياسي فأنه من السذاجة أن تخاصم مكونات الشعب لذلك النظام وعوضاً عن ذلك تلجأ الدول الحديثة إلى الفصل بينهما وعلى الملأ بأن النظام جسم غريب لا ينتمي إلى ذلك الشعب العظيم وهلم جرى لخلق فجوة بين الدعم الشعبي والنظام الحاكم وإلى غيرها من الاسباب. إضافة إلى أن الدبلوماسية ومن خلال القوى الناعمة تقوم على مهمة ليست بالهينة إطلاقاً، وهي أن يتفهم الاخر اختلافك بأنه مميز وجذاب ويخلق بالتالي احتراماً وتقبلاً لمصفوفاتك الثقافية والفنية والشعبية ويستبدل بها أي صورة ذهنية سلبية سابقة لديه.
وهنا، وفي حالتنا في المملكة العربية السعودية تأتي أهمية الدبلوماسية الثقافية التي هي إحدى أدوات القوى الناعمة التي تقوم بمد جسور التواصل وتعزيز التقارب بين الشعوب، من خلال تبادل القيم والتقاليد والأفكار. وتتيح نشر رسالتنا الإنسانية السامية وثقافتنا المتنوعة الأصيلة التي نملك منها الكثير والكثير، فسوف تساهم بلا شك في توفير جو ملائم لتوضيح الصورة الحقيقية، وتسمح للآخرين للتعرف على ثقافتنا وطباعنا النيرة. ويمثل التواصل مع الشعوب والنُخب من خلال الموروث الخاص بنا صلب هذه الأداة لمد أواصر الصداقة وتعزيز التعاون القائم وتحقيق مصالحنا بيسر ومنفعة عظمى.
الفنون كأداة دبلوماسية
أستخدام مكتسبات بلدً في الصناعات الخاصة به لإبهار الآخرين وخلق صورة ذهنية متقدمة عن ذلك البلد سلوك غابر في القدم، منذ الممالك الأولى، كان الملوك يتبادلون من الهدايا التي تصنع الدهشة على وجه متلقيها بقدر الامكان وتضع تصوراً بأنه الاخر الذي يمتلك مثل هذه المقدرات العظيمة لا يقل عنها من التقدم والازدهار والقوة. تلك كانت ممارسة أصيلة للدبلوماسية الثقافية لا تقل فعالية عن ممارسات اليوم، فالأفلام والموسيقى والصناعات الذكية من الابتكارات والاختراعات التي يطلع عليها الاخرون ماهي إلا رسالة واضحة بأننا وصلنا إلى مرحلة متقدمة نجعل رقاب الآخرين ترتفع لترى انجازاتنا وسعينا الحثيث في أن نطالب بالمزيد من القوة والنفوذ وحق الاعتراف بالوجود.
في منتصف الخمسينات الميلادية، تقدمت السيدة كورين سترونج، حرم سفير الولايات المتحدة الأمريكية المعين حديثاً لدى مملكة بلجيكا بطلب إلى متحف الفنون الحديثة الشهير في نيويورك بإستعارة مجموعة من مقتنياته الفنية لإستخدامها في مقر دار سكن السفير في أوسلو، هذا الأمر قاد إلى أنتباه المعنيين بأن دُور السفارات بالإمكان أن تكون مركزاً ثقافياً مهماً في الخارج يعكس الثقافة الامريكية، فأنهالت التبرعات من رجال وسيدات الأعمال في المجتمع الأمريكي لدعم هذا التوجه الجديد، خلال ست سنوات من ذلك الحدث قام المتحف بشراء العديد من الأعمال الفنية إلى جانب مقتنياته الخاصة وإعارتها لثلاثين سفيراً أمريكياً حول العالم بعد أن أنشئ قسماً مختصاً بذلك في إدارة المتحف بأسم "الفن في السفارات"، تطور الأمر بشكل متسارع مع مرور السنين حتى تبنى الرئيس الأمريكي جون كينيدي في مطلع الستينات هذا البرنامج وإدراجه تحت مهام وزارة الخارجية التي خصصت له الموارد اللازمة وإنشاء ادارة مستقلة لإدارة جميع الجوانب المتعلقة بنشر الثقافة الفنية الامريكية حول العالم.
تقوم فلسفة مثل تلك البرامج على تطويع الدبلوماسية لإستخدام الفنون كأداة من أدواتها المتعددة في التواصل مع الآخرين من الدول وشعوبها، ومع بروز النتائج على مثل هذه السياسات الدبلوماسية بادرت العديد من الحكومات لتبني تلك الرؤى لتفعيل ما أتفق عليه بأنه ممارسة للدبلوماسية الثقافية، وذلك عبر نشر فنونها التشكيلية والبصرية التقليدية والتفاعلية في المجتمع الدولي، وذلك من خلال إيجاد شراكة بين جهة حكومية -غالباً ماتكون الممولة وصاحبة صلاحية الإشراف- مع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، فتبادر بإقامة المعارض التشكيلية، وإعارة ونقل الأعمال والمجموعات الفنية داخل البلاد وخارجها. إضافة إلى خلق العديد من المبادرات التي تهدف للتعاون بين مواطني دولتها من النخب والمهتمين، ونظرائهما في أي دولة أخرى ، من تبادل لاستضافة الفنانين، وإقامة المحاضرات المتخصصة، وورش العمل، والمشاركة في المزادات، ودور العرض الفنية ، والمتاحف في العالم، وإصدار المطبوعات، وتوزيعها في الأوساط المعنية.
من خلال مثل تلك الأنشطة يراهن صانعي القرار السياسي على جودة صناعة مجتمعاتهم الثقافية بصفة عامة والفنية بصفة خاصة، وقدرتها في التأثير على الجمهور العالمي وجني المكاسب القومية جراء ذلك.