~ تـنـاغُم ~
علاقاتنا بالأشخاص لا تنحصر في جانبي القبول والنفور وما بينهما، بل تمتد في الاتجاهات الأربعة وحولها حتى تكاد تكون كل علاقة كنقطة إحداثية على رسم بياني، لا تشاركها أي نقطة أخرى موقعها وقيم إحداثياتها.
نحن نميز علاقاتنا بالشعور الذي تعطينا إياه، بالجو الذي يحيط بالتفاعلات بيننا وبين الآخرين، إضافة للعواطف التي نكنّها لهم. قد يحصل أحيانًا أن نجد رفقة البعض أمتع من رفقة غيرهم ممن نكنُّ لهم حبًا أكبر، ويحصل هذا لأسباب كثيرة، لكن أحدها هو ما استلهمته من نظرية Flow..
يشرح Mihaly Csikszentmihalyi، صاحب النظرية، معنى Flow أو ”التناغم” بأنها الحالة التي يعيشها المرء بانغماسه واستمتاعه بالعمل لمدة طويلة دون إدراك لمرور الوقت ولا للاحتياجات الأساسية كالحاجة للطعام أو النوم وغيرهما. ويصنف الحالات التي يواجهها المرء في العمل والسمة الشعورية لكل حالة بناءً على مدى التكافؤ بين تحديات العمل ومهارات الفرد الشخصية. تتلخص هذه الحالات في ثلاث أساسية: التوتر (أو القلق)، الملل، والتناغم.
تلزم حالة التناغم وجود تكافؤ بين متطلبات العمل والصفات الشخصية للفرد، ويتضمن التكافؤ كون العمل يشكل تحديًا للمرء بحيث يتطلب إتمامه دفعًا بسيطًا لحدود قدراته ودائرة الراحة التي اعتادها. أما عندما يتطلب العمل مهارات تفوق كثيرًا قدرات المرء أو تُحمِّله عبئًا ثقيلًا فإنه يكون محرقةً يؤكل فيها المرء بجهوده ومعنوياته ووقته. وعلى العكس، فعندما يكون مستوى العمل أقل بكثير مما يملك المرء من مهارات وقدرات فإنه يكون مملًا وغير مجدٍ على أي من الأصعدة الذاتية للفرد. ويوضح الرسم البياني للنظرية مواضع هذه العلاقات بين مستوى مهارات الفرد ومستوى التحدي في العمل.
على المستوى الاجتماعي، تنطبق نظرية التناغم في العلاقات بين الناس، فنجد كثيرًا من العلاقات غير المتناغمة تكون إما موتِّرة أو مملة، وعلى اختلاف طبائع الناس وتعدد أسباب علاقاتهم غير المتناغمة، غالبًا ما يكون المشترك بينها هو غياب التكافؤ بين أطراف العلاقة.
لو افترضنا أن خط المهارات في منحنى العلاقة يمثل ما يحمله المرء من قيمة فكرية وعاطفية واجتماعية، والتحديات هي القيمة التي يحملها الطرف الآخر، فهناك عدة احتمالات للعلاقة:
مهارات شخصية عالية يقابلها تحديات منخفضة. هذه الحالة للعلاقة عادةً ما تكون مملة للمرء، لأنه لا يجد فيها جديدًا ولا تحقق له لذة دفع حدوده المألوفة في التفاعل.
مهارات شخصية منخفضة مقابل ما يواجهها من تحديات. في هذه الحالة تكون العلاقة ضاغطة وموترة للمرء، لأنها تطارده بشعور النقص وعدم الكفاية، ولأنه في سبيل العلاقة يكون مضطرَا للتكلف بما قد لا يطيق.
التكافؤ بين مهارات طرفي العلاقة، وهو ما يحقق لكليهما التحدي والنمو في ظل التعادل المريح، وهذا ما يميز العلاقات الممتعة عن العلاقات الاعتيادية.
أخيرًا، لم توجد كل العلاقات لتكون متناغمة، ولذا فليس الهدف هو إيصالها كلها للتناغم، لكن الهدف هو محاولة فهم ومقاربة للأسباب التي تعطي العلاقات سماتها المتباينة.
فعندما نفهم معنى أن تكون بعض علاقاتنا مملة، أو موترة وغير مريحة، نكون أقدر على التعامل معها بشكلٍ لا يدفعها في الاتجاه الخاطئ؛ فلا نزيد العبء على غيرنا باستعراضات فكرية أو مطالبات عاطفية بقصد إحياء العلاقات التي مللنا فتورها, ولا نحمِّل أنفسنا أو نستجيب للمطالبات غير المريحة من الآخرين..
وبالفهم نكون أكثر قبولًا للتنوع وأقل ضجرًا من علاقاتنا التي ليست تمامًا كما نحب.