السفر كفلسفة حياة وتجربة روحية
جواز ومقال 1
تشغلنا كثيرا فكرة الحياة الطويلة، لأننا ليس فقط نريد أن نستمتع بها أكثر وانما نريد أن نجرب أشياء أجمل، أو نكتشف فيها محطات جديدة أفضل.
منذ الولادة نتقولب داخل قوالب ثقافية معدة لنا سلفا، وكل قالب قد يظن أنه حصل على الامتياز العرقي أو الديني الأفضل، وتظل طيلة حياتك تعيش وهم الامتياز، وتخاف الاقتراب من عوالم ثقافية أخرى، أو أن تتبنى معتقدات مغايرة، فهذا في عرف النسق الاجتماعي الذي تنتمي إليه ارتداد قد يكلفك خصومة اجتماعية أزلية أو حتى فقدان مصير حياتك المتبقية !.
السفر الذي هو في نظر البعض مجرد رفاهية عابرة، هي في نظر أخرين رحلة فلسفية روحية الى عوالم الحياة والبشر. فنحن الذين لا نملك العمر الكافي ولا يمنحنا نظام الحياة عدالة الفرصة الثانية لتجربة أشياء ومعتقدات جديدة غير القالب الذي تطبعنا عليه في صغرنا، ولا فرصة العيش في كفن تضاريس جغرافية متباينة، نرى في السفر ملاذا أخيرا لخوض تجاربنا المثيرة وأحيانا الشاطحة التي لم نألفها، وإن كانت مؤقتة وقصيرة، لكنها تترك أثرا عميقا داخل نفوسنا، وتثري شيئا من وجداننا، وتعوضنا عن نقص التجربة، وتجيب عن تساؤلاتنا وتفتح لنا بابا اضافيا من التأملات عن هذه الحياة.
ولطالما لفت انتباهي الرحالة الذين ينطلقون بغير هدى أو حتى زمن، يحملون القليل من الملابس ويسكنون في
هوستل مشترك ومتواضع ورخيص. وكأنهم في رحلة حج زهيدة الى وجهة مقدسة وغير معلومة. فالأرض في نظر هؤلاء المتسكعين تبدو كمعبد مقدس مفتوح وكبير، وأينما تحط قدميهم عليها تنالهم الطاقات والشحنات الروحانية وشيء من البركات والرحمات.
في جزيرة بالي الاندونيسية حيث يشكل الهندوس السواد الأعظم من السكان، توقف السائق عند معبد تيرتا امبول. ارتدينا إزارا ملونا (سارونغ)، واتجهنا الى الداخل حيث النبع المقدس وهي بركة مائية يتدفق إليها الماء عبر عدة صنابير. تأملت أحوال السائحين من مختلف الجنسيات والانتماءات وهم يندفعون بعفويتهم يمارسون طقوس الاستحمام في تلك البركة المباركة، فرغم أنها لا تمت بمعتقداتهم بصلة، الا انهم يستمتعون بتفاصيل اللحظة ويلتحمون ولو بشكل مؤقت مع ثقافة لا تنتمي إليهم ومع معتقدات لا يؤمنون بها، فالسفر بالنسبة لهم فرصة لكسر روتينهم العرفي او الديني، وتجربة شيء فريد من نوعه.
تجارب السفر من قبيل الطعام، الملابس، الموسيقى، الطقوس الدينية، وحتى مجرد التأمل في طباع الناس ومبانيهم وطريقة تنظيم شوارعهم ، تكسر فينا حالة الممل الثقافي والروتين الروحي الذي يكتسح حياتنا، وتشعرنا بقزامتنا أمام هذا الطيف البشري الهائل من الانتماءات. فيما تظل تردد وتقول على طريقة عباس محمود العقاد مع الكتاب: أهوى (السفر) لان عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لاتكفيني!.
٢٠١٨/٠٦/٠٩
الأرض في نظر هؤلاء المتسكعين تبدو كمعبد مقدس مفتوح وكبير