دول جديدة على خارطة العالم !
الخارطة هي مرأة العالم والأداة الأولى التي ينظر إليها المسافر لتحديد وجهته القادمة. لكن الخارطة منذ محاولات رسمها ما قبل الميلاد وحتى عصر GPS وقوقل ماب وهي في تغير مستمر، فلا الامبراطوريات والدول حافظت على وجودها ومسمياتها، ولا حتى التضاريس الجغرافية بقيت كما هي عليه، فجفت الكثير من الأنهار والبحيرات وتقلصت رقعة الغابات، واكتشفت معالم جديدة، وتشكلت جزر واندثرت معها أخرى.
فقط لو رجعت إلى خرائط الثلاثين سنة الماضية، ستجد أن دولاً قد أضيفت إليها أو استحدثت مسمياتها أو عدلت من حدودها، خاصة مع حقبة إنهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه وما تلى ذلك من إعلان العديد من التجمعات العرقية تشكيل كيانها الخاص بها. فكيف عليه الحال وأنت تنظر إلى خارطة العالم قبل ذلك بقرون، ولنقل إلى زمن ابن بطوطة في القرن الرابع عشر، حين كان يستخدم مثلاً مسميات للدول مختلفة تماماً عن وقتنا الحاضر، مثل الجزائر التي كان يقصد بها جزر المالديف وليست جمهورية الجزائر الحالية، وسيلان وهو الاسم القديم لجمهورية سريلانكا. فضلاً عن عدم وجود امريكا او استراليا في ذهنية ذلك الزمان.
ومن المرجح جداً أن أسماء الدول وحدودها وكياناتها ستستمر بالتغير، فلم نصل إلى عصر السلام التام حتى في غرب اوروبا أكثر جهات العالم استقراراً كما نظن، فلا تزال دعوات الانفصال قائمة ومتكررة في بريطانيا واسبانيا مثلا. ولذلك استغرب من يرفض انفصال الاقاليم في بعض الدول المضطربة، كحل سياسي قائم ووارد في أي وقت، ويتعامل معه دوماً كمؤامرة، وليس كواقع فرضته تحديات قهرية بفعل التجاذبات والنزاعات التي لم تتوقف منذ فجر التاريخ البشري، وكأن حدود الدول الحالية التي وضعها أساساً المستعمر هي حدود نهائية، وانها ستبقى معنا إلى الأبد.
تعتبر دولة مونتونيغرو (الجبل الاسود) واحدة من أحدث الدول التي قامت أو بالاصح أعيد بعثها من العالم القديم، وأصبح معترفاً بها رسمياً في الأمم المتحدة. فمع انفصالها من صربيا بعد استفتاء عام ٢٠٠٦ تفككت أخر حلقات اتحاد يوغسلافيا التي تشكل بمعية عدة دول في البلقان، حتى استقلت عن بعضها شيئاً فشيئاً منذ العام ١٩٩١. ومع هذا الانشقاق أصبح للمونتونغريين لغتهم الرسمية الخاصة المنبثقة أساساً من اللغة الصربية الكرواتية، وكل هذا من أجل تعزيز الوجود والسيادة كدولة ذات كيان ثقافي وعرقي مستقل عن الجوار.
ولأن الجبل الأسود كدولة حديثة التكوين فلا يعرفها الكثير، لذا يستغرب البعض حين يسمع باسمها، أو أن تكون وجهة جاذبة للسياحة أو آمنة للسفر. وكنت قد دخلت إليها بفيزا أمريكية، ووصلت إليها براً قادماً من جارتها الجنوبية ألبانيا، وتطلب عبور الحدود قرابة الساعة، وهذا يعتبر أطول مدة عبور لي بين دولتين في أوروبا، بسبب أن أغلب دول البلقان ليست من ضمن الاتحاد الاوروبي ولا تجمعهم اتفاقيات موحدة، ما يجعل الاجراءات أكثر تعقيداً.
في بودغوريتسا عاصمة الجبل الأسود، لن تجد الكثير من الحياة، فهي مدينة مغمورة ونائية، لكن ستجد فيها بصمات الوجود الروماني والعثماني، مثل برج الساعة وبعض المساجد والجسور القديمة. أما مدينتي كوتور وبودفا الساحليتين فتعتبران مصيفاً سياحياً هاماً، تضجان بالحياة وتزدحمان بالسواح خاصة القادمون من روسيا مع يخوتهم الفاخرة، لما تتمتعان من أجواء شاطئية صيفية رائعة.
اطلالة الجبل الأسود على البحر الادرياتيكي، جعل لها اتصال قديم مع ايطاليا، تحديداً مع جمهورية فينيسيا التي اخضعت الجبل لنفوذها في العصور الوسطى. وهنا يبرز جمال مدينة كوتور القديمة وازقتها الضيقة ذات اللمسات والعمارة الفينيسية المتقنة. وقد عمل الفينيسيين على تحصين المدينة بسور طويل يطوقها ويحصرها بين الجبل والبحر، ويعد صعود درجات هذا السور جزءً مشوقاً، اذ يتطلب لياقة وجهداً بدنياً ينتهي بك إلى القمة حيث روعة المنظر وهيبة المكان.
يغلب على شعب مونتونيغرو الطيبة والهدوء، وطول القامة، وهو أكثر ما ازعجني وجعلني اتحسس قامتي طوال الرحلة حتى عدت إلى ألبانيا ووجدت فيها هناك من يواسي غربتي. لكنني غادرت الجبل بأريحية تامة وبكامل الرضا، بعد أن شعرت فيها بحميمية الأجواء الطيبة في لياليها الرومانسية الساحرة، التي تحلو أماسيها بجلسات العشاء الخارجية بجوار الريفيرا أو الأسوار والأزقة القديمة مصحوبة بالعزف الموسيقي.
وبقي معي السؤال الذي يرن في ذهني طويلاً بعد تجربة الجبل الأسود، من هي الدولة القادمة التي ستكون على خارطة العالم بعد أن كانت جنوب السودان آخرها !!.
2020-12-28