ألبانيا وأنا في أحداث رواية 1984 !
ماذا يعني أن تكون فاقداً للذكريات والحكايات، تائهاً في دوامة الأزمنة والأوقات، لا تعرف أين أنت ومن أين بدأت وفي أي لحظة تقف وتسير !!.
جاهداً يحاول ونستون بطل رواية الكاتب الانجليزي جورج اورويل، أن يفتش في رزنامة الأيام والأحداث، باحثاً عن تاريخ لم يعد له اعتبار أو وجود، بعد أن صار التدوين والتوثيق جريمة سياسية بشعة يحاكمك عليها النظام !!. ثم راح يخمن بحدسه أنه يقف في العام ١٩٨٤، ليكون هذا التاريخ وبخط عريض عنواناً لواحدة من أشهر روايات ديستوبيا القرن العشرين.
لا أعرف لماذا اختار اورويل الذي نشر روايته بعد الحرب العالمية الثانية، سنة ولادتي تحديداً ليسرد فيها مآسي الحياة في ظل حكومة حزب اجرامي ديكتاتوري بشع، يسعى لمسح ذاكرة الأجيال وانتزاع كل ما له صلة بالماضي، من أجل السيطرة على مصير الناس كما ظل يردد ذلك ويقول: (إن من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي). لكن الأكيد أن اورويل تمكن بروايته تلك استشراف المستقبل لدرجة أنها عدت عالمياً من ضمن الكتب الأكثر منعاً، إذ مر على العالم ديكتاتوريات وأحزاب بشعة، اذاقوا فيها شعوبهم الويلات وربما بنفس البشاعة التي صورتها الرواية أو أعظم.
استرسل اورويل بقسوة سرد جرائم الأنظمة الشمولية، ومعنى أن تعيش وتموت من أجل الحزب، تتزوج وتنجب أطفالاً من أجل الحزب، وتنام وتأكل فقط من أجل أن تكون في خدمة الحزب وزعيمه الأخ الكبير كما كانوا ينادونه. تلاحق خطواتك وأنفاسك شاشات الرصد والمراقبة في كل اتجاه وزاوية، ويشي بك أبنائك الصغار حين تسيء بحديثك إلى السلطة. وتحضر حفلة للكراهية والشتائم بالاجبار، ضمن تجمع شعبي كبير يدان فيه الخونة ويعدم فيه المتجاوزين، ويعلن فيه تجديد الطاعة والولاء إلى السيد الزعيم، وترفع شعارات الحزب الثلاثة: الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة.
حين زرت ألبانيا وقرأت شيئاً عن تاريخها المعاصر ووقفت على بعض معالمها وشواهدها، أمكنني القول أن أنور خوجه الذي حكم هذه البلاد بالنار والحديد والعزلة طيلة أربعين عاماً، واحداً من مصاديق ونبؤات اورويل. فخلال حكمه القسري جاع ومات الآلاف، وهاجر وهرب من ألبانيا الآلاف. وأرعب الخلق بالنار والحديد، وزرع بين أوساطهم شرائح التنصت والجواسيس، ونشر الجهل والتدمير، وحينما سقط نظامه عام ١٩٩١ كان هناك ٣مليون ألباني و ٢٠٠ ألف ثكنة عسكرية !!.
نرجسية أنور خوجه جعلته معادياً للجميع، فبشيوعيته المتطرفة عادى دول الغرب، لكنه أيضا عادى وقطع علاقته بالاتحاد السوفيتي بعد موت لينيين، وتوجه نحو الصين لعدة سنوات، ثم ما لبث أن قطع ارتباطه بها بعد أن صار هناك تقارباً امريكيا صينيا. أصبحت ألبانيا معزولة بالكامل لا حول لها ولا قوة. عزلة خارجية وأخرى داخلية حين شدد الخناق على كل ما يربط الألبانيين بتاريخهم أو بمظاهر التدين، فهدم معالم التراث الاسلامي، ومنع الشعائر الدينية. وسعى لنسف ذاكرة الناس وارتباطهم بهويتهم، تماماً كما سعى الحزب في رواية ١٩٨٤ على انشاء لغة جديدة، تقوم مقام لغة الناس التي تربطهم بماضي غير ماضي السلطة وحاضرها !.
اليوم، حين تتجول في تيرانا عاصمة البانيا الوادعة، تلحظ شعباً هادئاً مسالماً، وفي الوقت نفسه مرهقاً من ثقل وديون الماضي. مات خوجة عام ١٩٨٥، وبقيت أنفاقه الأرضية وكذلك المبنى الهرمي الثقافي الذي شيد تخليداً له وسط المدينة، كشاهد على مرحلة صعبة مضت، رغم هجران الناس للمكان وتحوله الى مجرد خربة يتسلق جدرانه الصبية.
كل ما استطيع أن أقوله عن ألبانيا أنه بلد فاتن لكنه كعشرات البلدان التي صادر مصيرها حفنة من المستبدين وعبث بأحوالها المفسدين، فأزاحوها سنوات طويلة عن التنمية والتعمير، رغم أنها حتماً تستحق واقعاً ومصيراً أجمل .. ربما يكون قادما.
24/09/2020
إن من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في
الماضي
جورج اورويل