أقل من خمس ساعات من القيادة المتواصلة هو الوقت الفاصل بين مدينتي لوس انجلوس ولاس فيغاس، لتتوارى عن ناظريك هضاب وخضرة كالفورنيا شيئا فشيئا، وتجد نفسك في عمق صحراء نيفادا الشاسعة، تتخللها أشجار الصبار المميزة، وتلك واحدة من مفارقات الجغرافيا التي لا تعد ولا تحصى في بلد كبير كالولايات المتحدة.

لهيب الشمس في لاس فيغاس لا يكاد يختلف عن ما هو عليه في أي مدينة في صحراء عربية. حتى أنك ستلحظ أن نمط الحياة في هذه المدينة ليلي أكثر من ما هو نهاري على غير العادة في الدول الغربية، حيث تضاء المدينة بمصابيح النيون المبهرة، وتتكدس حركة السواح بعد أن تهدأ لهيب الحرارة، لينتشروا جميعا في لحظة واحدة من فنادقهم الفارهة المكيفة، إلى شارع ذا ستريب أشهر طرق القمار العالمية.

هذا ما نعرفه بالضبط عن لاس فيغاس، كقبلة يقصدها المقامرون الباحثون عن ثروة الحظ الخاطفة، إذ لا يمكن أن تذهب لمكان فيها دون أن تشاهد مكائن القمار، حتى وأنت في طريقك للصعود إلى سلم الطائرة. لكن المدينة لم تعد تعتمد فقط على ألعاب القمار كمصدر جذب سياحي، وإنما على شيئين أخريين: الترفيه العائلي والمؤتمرات.

فالفنادق الفارهة لا تشبه أي فنادق عالمية، وانما يمكن اعتبار كل فندق مدينة ترفيهية عائلية متكاملة بحد ذاتها، تضم أسواقاً ومدن ألعاب وحدائق مائية، ومطاعم راقية، وتتنافس بينها في ديكوراتها وعروضها ونوافيرها الضوئية. والأهم من كل ذاك فإن لاس فيغاس أصبحت مركزاً لأكثر عروض المسرح والسرك والرقص الفني إثارةً وشهرةً في العالم. وإذا كان هناك أكثر من ٤٠ مليون يزورون لاس فيغاس سنوياً، فإن نحو ٦ مليون منهم فقط يأتون إلى المؤتمرات والمعارض المنعقدة فيها، فصارت بذلك محطة عرض هامة لكبريات الشركات ولآخر المنتجات الصناعية والتقنية بواقع ما يزيد عن ٢٠ ألف حدث سنوي. وهذا النوع من الجذب السياحي يدر على المدينة دخلاً مقدراً بحوالي ١٢ مليار دولار .

قبل قرن، لم يكن لهذه المدينة وجود، ومع بناء سد هوفر البديع أحد المعاجز الهندسية الذي وفر الكهرباء للمدينة، وفجر لها ينابيعا من المياه، ازداد توافد الناس على المكان من كل صوب، بحثاً عن منافع ومستقبل لهم، وتحولت صحراؤها الجرداء إلى عالم من الصخب والجدل الذي لا يهدأ. وجه من وجوه المدن العصرية، تحضر فيه المتعة بالاثارة بالتهلكة. يراهن البعض على سقوطها، لكن الواقع والمنطق يقول أن لا حصانة بالأساس لأي شكل من أشكال الاقتصاديات من المخاطرة والمجازفات، مهما تلبس بلباس النزاهة والقداسة في عالم البشر المعقد هذا.

فزوروا لاس فيغاس يرحمكم الله ففيها فضل على سائر المدن في التخطيط والابهار والهندسة، وتجربة سياحية فريدة للتأمل.

العشرون من اكتوبر ٢٠٢٠ 

** المقالة الأربعون عن تجارب السفر