خطيئة القلق
سمعت قبل فترة قصيرة "بودكاستًا" يحكي فيه طبيب ومعالج نفسي عن هشاشة جيلنا، عن ضعفه وقلَة صبره وإيمانه، وأن ذلك هو سبب ازدياد الأمراض النفسية.
سماع هذا الكلام من شخص متخصص أدخلني في دائرة من مساءلة عقيمة للذات وازدرائها في كل مرّة أشعر بالقلق، فهو الخبير في نهاية المطاف.
جزء كبير من مخاوفي عمومًا، والقلق الذي أعيشه نابعٌ من سؤال: هل أنا جيدة بما يكفي؟ لا أعرف مالذي سيؤهلّني لأكون "ما يكفي"، وبالنتيجة لا أعرف الطريق، لكن أن أكون هشة وضعيفة ليسا عاملين مساعدين بالتأكيد، أعرف هذا المقدار.
هل أنا هشة وضعيفة ولذا يقتات القلق عليّ؟ هل نحن جيل هش عموماً وهذا سبب ازدياد حالات القلق والاكتئاب؟ ربّما. لا أملك جوابًا موضوعيًّا مدعوم بتحليل دقيق أو حقائق علمية، لكني على يقين الآن أن النبرة اللوامة تلك لا تحل المشكلة.
لم تكن معضلتي في أنني لم أستطع تحمل نصيبي من المسؤولية، لم أكن لأمانع أن يشير أحدهم إلى موطن ضعف عندي ويقول هناك تكمن المشكلة. الواقع أنني أحتاج ذلك، أطلبه ممن حولي، لكن أن يخاطبني أحد لا يعرفني، ليقول: ضعيفة، فهي رصاصة طائشة لم تخطئني.
لا أدري مالذي يعنيه تحديًا بضعيفة، ولا كيف أكون قويّة، كلما أعرفه أن مشكلتي بسببي.
إنه القلق. أنا قلقة إذًا
لقد كنت طفلة حساسة، كيف حصل ذلك؟ لا أعرف. لكني اتذكر أنني كنت طفلة حساسة، ولم تكن عندي الكلمات أو الأدوات للتعامل مع مشاعري.
لا أذكر متى تحديدًا استطعت وضع يدي على القلق، لأتحسسه بشكل خاص، منفصل عن باقي المشاعر التي تغمرني، لكنّي أذكر أنه في سنواتي الجامعية كان قد عرّف بنفسه بشكل لا تخطئه العين. نعم العين.. لا أظنك كنت ستلمحني وأنا مرهقة طوال الوقت، لا أنام بما يكفي، وأبكي دون داعٍ في الحافلة عائدة للبيت، أو وأنا أتوسل الهواء حولي أن يهبّ على رئتيّ، فلا تعرف أنه القلق.
في أيام شعرت أنه رفيق، يجلس بجانبي على حافة مرتفع، ننظر للهاوية ولا أأمنُ أن لا يلقيني.
في أيام أخر شعرت أنه يقضمني، أو ينخرّ في روحي، أضطرب حتى أكاد أشعر بارتعاش جسمي كطير صغير يصارع الموت، لم أكن أصارع الموت، كنت أصارع الحياة.
أعرف سبب قلقي آنذاك، يقلّ أيّامًا، يكثر أخرى، لكنه لا يغادر البتة. كنت قلقة ومكتئبة على الدوام، إلا عندما أشيح بوجهي للجهة الثانية من الحياة، الجهة غير الحقيقية، عندما أتجاهل كل شيء وأغوص في إدماناتي التافهة. وسائل تواصل اجتماعي، مسلسلات، أي شيء يحميني من حياتي.
لم يكن في يدي الكثير لأفعله، لم يكن في يدي أحد القدرة على انتشالي، بواعث حالتي تلك كانت قوية، وموجودة، ولم تكن "تدور في رأسي فقط".
لم يكن وضعي النفسي ليكتفي بأن يشلّ حياتي ويلقي بي في جبّ مظلم، لكنه كان يؤثر على صحة جسمي، كنت أمرض حين أنزعج، وكان ضيق التنفس يلازمني لفترة طويلة، وقد بدأ حسب ذاكرتي حين كنت في السابعة عشر، 7 سنوات كاملة.
حاولت إنكار السبب، وردّ ضيق التنفس إلى سبب عضوي، لكني مؤخرًا خضعت لكلّ الفحوص التي قد تخطر على البال، من صور الرئة إلى تحليلات الغدة الدرقية إلى مستوى الحديد في الدم، كل شيء طبيعي، ما عدا ذهني.
أستسلم.
إنه القلق. أنا قلقة إذًا.
بات جزءًا منّي، ليس كاسم أو فرد من العائلة نحبّه، إنما كإصبع زائد.
حاولت تحييد شعوري بالحنق تجاهه كسياسة لتقليل الأضرار، ليس مرضًا، لكنه ليس طبيعيًّا بكل تأكيد. اصبع زائد. فلأتعايش.
كيف؟ لا أدري. هذا الإصبع يعيق سيري.
هل يمكن استئصاله؟ لا أدري.
صرت أتخبط التعامل معه. من التجاهل، إلى محاولة عقلنة أفكاري، إلى اللجوء إلى أخصائية نفسية. إلّا أن الأخير كان خيارًا صعبًا جدًّا لأسباب عدّة ليس هذا مقام التفصيل فيها، لكن أحدها فاجأني، فقد كان اللجوء لمعالجة اعتراف منّي لنفسي بأني عاجزة عن مواجهة الأمر بنفسي، بأني ضعيفة وناقصة.
كل ما كنت أقوله للآخرين عن أن اللجوء لعلاج أمرًا طبيعيًّا، أن قاصد العلاج ليس ضعيفًا، وليس ضعيف إيمان، وليس معيبًا، لم أستطع أن أطبقه على نفسي.
بقيت أتخبّط، تارة أكتب لنفسي، وأخرى لصديقاتي، ومرّات على الملأ، أحيانًا أستسلم للإدمان مجددًا، أحيانًا أخرى أحاول استجماع شتات حياتي، لكن القلق وجد لنفسه مكانًا.
ما زلت أتخبّط، لا حلّ عندي.
قطعت الكافيين لأنه يزيد حالتي سوءًا، أحاول إبقاء صديقاتي وصمام أماني قريبًا منّي، وألّا أستسلم تمامًا لشعور عبثي يمنعني من الحياة، لكنه يغلبني أحيانًا. هذا أحد هذه الأيام.