الغوغائيّة السياسية في القصيدة الحسينيّة: شيخ حسين الأكرف أنموذجًا
في الختام.. (4/4)
لقد كانت رحلةً ممتعة بحقّ، التجوّل في طيّات ذاكرتي السمعيّة، وذاكرة شعب بأكمله، اللطميّات والأناشيد التي عبّرت عنه وتلك التي خلّدت أحداثًا سياسية حساسة، غلبني الحنين في كثير من اللحظات حتّى ملت عن رشدي وكدت أحمد هذا الإقحام السافر للسياسة في القصائد العزائيّة، إلا أن الحقيقة كانت تمثل أمامي كلّما زاغ بصري عنها: إنها غوغائية غير مأمونة العواقب.
هذا الخطاب يتّكئ على غضب موجود بالفعل، لكنّه يعمّقه ويؤصله ويستثيره من أجل "الثورة"، وهي دائرة لا منتهية من تكرار الثورات يعرفها البحرينيون كما يعرفون الخطوط في أكفّهم، يقول كلّ جيل للذي يلحقه: لقد عرفنا الدرس، وستكررونه ويكرره أبناؤكم، ولا يعرف أحدًا طريق الخروج.
كما أنه خطاب شديد الأدلجة، إقصائي يرى في الآخر جيشٌ يزيديٌّ بالضرورة، كل الآخر، ولافرق بين أن يكون شيعيًّا أو سنّيًّا أو غير ذلك، فكلّ من لا يدخل في قوقعتنا ليس منّا، هو آخر، هو جيش الباطل، وهو امتداد لغاصبي الخلافة من الإمام علي، ولقاتليّ الحسين عليه السلام، ولا توجد تفسيرات أخرى ولا اتجاهات، ولا مكان للتعايش المذهبي.
وإن كان هذا عيب الخطاب الدينيّ ككلّ، فإن اللطميات والأناشيد تزيد على ذلك بقالبها شديد العاطفيّة للعزاء وحتّى الأناشيد، ولذا يسهل تمرير الكثير من الأيديولوجيا عبرها دون مقاومة العقل الذي لا يحضر في هذا المورد ذو الطبيعة الانفعالية اللاواعية، ومن هنا تأتي خطورة هذا النوع من الخطاب، ولذا أعتبره غوغائيًّا، فعمله مع العواطف، يستثيرها، يتلاعب بها، ومن ثمّ تصبح عقائد، وربّما ابتدأ بالعقائد وتسلسل لتوليد عقائد جديدة وتوجيه الآراء والسلوك السياسي.
بالإضافة إلى كونه خطابًا طائفيًا إلى حدّ كبير في كثير من المواضع، ولو توسّعنا للنظر في غير نتاج شيخ حسين الأكرف لرأينا حجم الطائفية التي تغذيها اللطميات، ولو كانت دراسة موسّعة لأثر اللطميات على المجتمع الشيعي والعقلية الشيعية ربّما لصدمنا بالنتائج، خصوصًا في منطقة يلعب المذهب فيها دورًا رئيسيًّا في التفاعل مع الأحداث على الساحة السياسيّة.
وبهذا المزيج ينتج تعاطٍ سحطيّ مع القضايا، فنحن في معسكر الحسين، نحارب قتلة الحسين الذين يبعثون من الرماد زمانًا تلو الآخر يتقصّون محبينه ليقتلوهم، وهذا الإسقاط يصلح لكل مناسبة وكل مكان من البرلمان منقوص الصلاحيّات في البحرين إلى الحرب السورية الطاحنة، والخلاص الوحيد يكمن في المأتم، على الجميع أن يصبح شيعيًّا متبعًا لولاية الفقيه لتتحقق الوحدة،ولنقضي على أعداء الإسلام.
أنا لست منظّرة، وبالطبع لست محللة، ولكن إن سمحت لنفسي هنا، فسأقول أن الإنتاج الحسيني بهذا الخطاب إنما يسهم في انكفاء المجتمع الشيعي على نفسه، وانغلاقه على شركائه في الوطن والقوميّة، وعلى الحلول الفعليّة والفعّالة لمشكلاته، وعلى الاتجاهات الأخرى التي قد تصحح مساره، إذ غُلّبت عاطفته على قدرته المنطقية على محاكمة الأفكار، فهو -أي الخطاب- يجعله راديكاليًّا وثوريًّا بالانفعال، دون تفكير عميق وحقيقي في مشكلاته وقراءة في الاحتمالات والإمكانات، وهو أيضًا ينتج أفرادًا طائفيين ومتحمّسين خطرين، وينمي شقّ الأمة.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الخطاب ليس وليد شاعره وملحّنه فحسب، بل هو الابن الشرعي لتيّار بأكمله يتبنّاه ويعيد إنتاجه بكل الصيغ الممكنة وكل الأشكال التي كانت اللطميات أحدها.
نقطة أخيرة لفتتني ولا أعرف إن كان رأيًا موضوعيًّا أم أن ارتباطي بالإصدارات القديمة هو ما يجعلني أعتقد بأنها أفضل من ناحية اللحن والكلمات، فالإصدارات الحديثة متردّيّة فنيًّا، لا قصائدها ذات قيمة أدبية ولا ألحانها من الشجن الذي اعتدناه من شيخ حسين الأكرف، وهو مما أأسف له.