المرأة البحرينية بين الأحوال الشخصية.. والسياسية
حكاية #معلقات_ينتظرن_الإنصاف هي حلقة ضمن سلسلة طويلة لقانون الأحوال الشخصية خصوصًا الشق الجعفري منه في البحرين، يتداخل فيها الديني والسياسي كعاملٍ واحد.
بدأت هذه السلسلة كما يذكر في ندوة للمحامي حميد صنقور عام 1979 ضمن الأسبوع الثقافي الذي أقامته جمعية أوال النسائية. بدأ منذ ذلك الحين حراكًا مجتمعيًا تمثل في تشكيل "لجنة تطوير الأوضاع التشريعية والقانونية للأسرة في البحرين" عام 1982 التي تغير اسمها لاحقًا لـ: "لجنة الأحوال الشخصية" عام 1984، شكل اللجنة عدد من منظمات ومجمعيات وشخصيات مختصة ومهتمة بحقوق النساء.
طالبت اللجنة بعدد من الأمور من ضمنها: إصدار قانون متقدم لأحكام الأسرة، إصلاح النظام القضائي، تبني قضايا النساء المتظلمات في المحاكم والدفاع عنها، و توعية الجمهور لتقبل قانون الأحوال الشخصية، كما طالبت بإصدار قانون موحد للأحوال الشخصية للعمل به في كلا المحكمتين الجعفرية والسنية المختصتين بالأحوال الشخصية، حيث أن القضاء الشرعي كان ما زال يستند إلى الأحكام الشرعية دون وجود قوانين تنظم عملية التقاضي.
تواصلت المطالبات من أجل سنّ قوانين للأحوال الشخصية ودفع بعض الجهات والشخصيات بهذا الاتجاه، إلا أن تسعينات القرن الماضي شهدت أحداثًا سياسية أخرت تناول قوانين الأحوال الشخصية بمزيد من الجدية.
مع بداية ما يعرف بـ"العهد الإصلاحي" -وهو العهد الذي بدأ بقدوم ملك البلاد الحالي إلى الحكم- عادت القضية إلى الواجهة، حتى أن الشيخة سبيكة آل خليفة قرينة عاهل البلاد ورئيسة المجلس الأعلى للمرأة أيدت إصدار قانون ينظم الأحوال الشخصية في لقاء لها مع صحيفة الأيام في يونيو 2001.
في تلك الفترة أخذ النقاش المجتمعي حول تقنين الأحوال الشخصية طابعًا أكثر جدية وحدّية في آنٍ واحد، فأصدر علماء الطائفة الشيعية بيانًا معارضًا جاء فيه: "بمناسبة ما يدور من حديث حول تقنين الأحوال الشخصية فإنّه نظرًا لما عليه المذهب الجعفري من فتح باب الاجتهاد لا يكون فرض رأي فقهي معيّن -وإن كان في إطار المذهب- على الأجيال كلّها متوافقاً مع هذه الأساسية وهي فتح باب الاجتهاد، ولذلك لا يسعنا إلا أن نعارض أي تقنين ينقض هذا الرأي الواضح للمذهب.. على أنّ النظر في الأحكام الشرعية لا يكون إلا لمجتهد، لا لنواب المجالس التشريعية الوضعية ولا لغيرهم".
وفي 2003 قرر مجلس النواب البحريني مناقشة الاقتراح برغبة بشأن أسباب عدم وجود قواعد تنظم أحكام الأسرة والأحوال الشخصية في مملكة البحرين، إلا أن المعارضة الشيعية كانت قد قاطعت تلك الدورة الإنتخابية التي أعادت الحياة البرلمانية للبحرين بعد انقطاع دام 27 عامًا حلّ فيها قانون الطوارئ محل العمل بالدستور وعطّل خلالها البرلمان في دورته الأولى، وقد كانت المقاطعة بسبب أن دستور 2002 انتقص من صلاحيات مجلس البرلمان لصالح مجلس الشورى الذي يتكون من أربعين عضوًا يعينهم الملك.
لذا كانت الشوارع والمنابر والندوات هي الوسيلة التي عبر من خلالها الشارع الشيعي عن رفضه لهذا التقنين، وقد وصل الأمر بالشيخ عيسى أحمد قاسم إلى حد تحريمه في خطب الجمعة ومن خلال الملتقيات التي أقيمت.
ورغم أن مؤيدوا التقنين كانوا على قناعة من أنه أنه سيحل عدد من المشكلات من بينها غياب مرجعية واضحة يمكن أن يحتكم إليها المترافع، حيث لا يدري مالحكم الفقهي الذي سيستند إليه القاضي في كل قضية، التأخر في إصدار الأحكام، وفساد القضاة، إلا أن المعارضين اعتبروها مشاكل غير مرتبطة بوجود قانون. ففي حوار له مع جريدة الوسط قال الشيخ محمد صنقور المتحدث باسم المجلس العلمائي (الذي تم حله في 2014): "تأخير البت في القضايا إما ناشئ عن عدم الكفاءة أو انه ناشئ عن قلة المحاكم الشرعية على رغم كثرة القضايا، وكلا الأمرين لا ربط لهما بالتقنين (...) على أنه لا مانع من وضع سقف زمني ملزم للبت في القضايا. وبخصوص الفساد كالارتشاء وسوء الخلق فهذا لو كان صحيحا فمعالجته لا تتم بواسطة التقنين! فالخلل إنما نشأ عن التعيين وآليته كما نشأ عن عدم الرقابة! أما عدم وجود مرجعية للترافع فذلك ليس صحيحا فالمحاكم شرعية بحسب الفرض، فالمرجع هو الشريعة، فحينما يكون المترافع عارفا بأحكام الشريعة فإنه سيجد ما يقوله حين الترافع. فإذا كان الاختلاف بين القاضي والمترافع يرتبط بالحكم الشرعي الكلي فإن على القاضي بيان الحكم الشرعي الكلي للمترافع وعلى المترافع القبول باعتباره مسلمًا".
ورغم ذلك، لم تكن حينها المعارضة مطلقة من قبل رجال الدين، إنما صاروا يطالبون بضمانات محددة للتقنين، وهي: 1. أن يكون التقنين وفقًا للأحكام الشرعية، 2. أن تشرف عليه المرجعية الشيعية العليا (وقد تم اختيار السيد علي السيستاني ليشرف على القوانين)، 3. وأن تكون هناك ضمانة دستورية بأن لا يتم المسّ بهذه القوانين إلا بإشراف هذه المرجعية "قانون لايدخله غريب عن حكم الشرعية وينال ابتداء وفي أي مرحلة من مراحل تغييره موافقة وإمضاء المرجعية الدينية الشيعية فيما يخص الشيعة، وإمضاء وموافقة المرجعية الدينية السنية فيما يخص السنة. ويتضمن الدستور مادة صريحة بهذا الشرط غير قابلة للتعديل" – شيخ عيسى أحمد قاسم – خطبة الجمعة 14 أكتوبر 2005م، ولم تتم الاستجابة لهذه الشروط إلا عن طريق حملات صحافية شرسة من الصحف الموالية للحكومة.
اللحظة الفاصلة في تلك المرحلة كانت حين دعا الاتحاد النسائي البحريني (الذي كان ما يزال تحت التأسيس حينها) ولجنة الأحوال الشخصية، إلى اعتصام للمطالبة بإصدار قانون للأحوال الشخصية، فما كان من المجلس العلمائي بقيادة الشيخ عيسى إلا أن دعا إلى مسيرة حاشدة كرد على الدعوة الأولى، وللتأكيد على المطالبة بضمانات دستورية لأي قانون أحوال شخصية يمكن أن يصدر، وقد حضر المسيرة عشرات الآلاف، حتى وصفت بأنها أكبر مسيرة في العهد الإصلاحي، بحضور نسائي لافت.
واعتبرت ردًا واضحًا من الطائفة، ونساء الطائفة بشكل خاص، على الموقف من تقنين الأحكام الشخصية، وأنه لا يجب أن يمرر القانون دون الضمانات التي طالب بها رجال الدين.
الشق السني من قوانين الأسرة أقر في 2009، فيما استمر الشد والجذب على الجبهة الشيعية، واستمرّت الحملات الصحافية بين تخوين رجال الدين اتهامهم بـ"تنفيذ أجندات إيرانية" تارة، وتارة أخرى بالترغيب وعرض قضايا النساء في المحاكم الجعفرية التي لم تنتهِ بخير.
موافقة جمهور الطائفة ورجال الدين لم تعد ضرورية بعد ذلك، حيث استفرد البرلمان عام 2017 بإقرار القانون بغياب مشاركة المعارضة بعد انسحابها على أعقاب أحداث 2011، وبعد أن تم سحب جنسية الرمز الأكبر للشيعة في البحرين الشيخ عيسى أحمد قاسم وتطويق قريته في يونيو 2016، ورغم أن رجال الدين واصلوا مطالبتهم بضمانات دستورية، وأبدوا تحفظاتهم على بعض مواد القانون عبّر عنها السيد عبدالله الغريفي في حديث الجمعة، وهو أحد رجال الدين البارزين في البحرين، مثل أنها تعطي للقاضي صلاحيات الفقيه دون أن تشترط أن يكون القاضي فقيهاً، كما اعتبرها نسخة مستعجلة ومضغوطة وتترك مساحة كبيرة للتأويل والتفسير، وهو ما تخوّف من أن يفتح مساحة ممارستها لغير المختص مثل مجلس النواب، وأن يخلق مشكلات أخرى في المحاكم بدل من أن يحل المشكلات القائمة، كما أن المسودة تتضمن مجموعة أخطاء "صياغية وفقهية" كما قال الغريفي، وختم بأن أعلن عن استعداد رجال الدين الذين درسوا المسودة واستخرجوا هذه المشكلات للقاء أي جهة تود الاطلاع على هذه المخالفات.
ورغم ذلك فقد مرّ القانون وتم إقراره في المحاكم الجعفرية.
اليوم وبعد أربع سنوات من إصداره، قام مركز "تفوق" الاستشاري للتنمية بقيادة مريم الرويعي بإطلاق حملة "معلقات ينتظرن الإنصاف" للتركيز على النساء اللواتي لسبب أو لآخر انتهى بهنّ المطاف إلى أن يبقين في علاقة قائمة بشكل رسمي فقط، حيث يرفض الزوج تطليقهن.
بعض هؤلاء النساء ممن رفعن قضايا طلاق بسبب الضرر وتم رفضها، أو حكم عليها بأنها ناشز لأنها خرجت من بيت الزوجية، وفي كل الحالات فإنهن لجأن للخلع، إلا أنه حسب الفقه والمادة 95 من القانون الجعفري، يحق للزوج أن يطلب أي مبلغ يشاؤه مقابل الخلع، مما سمح لبعض الرجال بطلب بمبالغ خيالية لم تستطع النساء تأمينها من أجل شراء حريتهنّ.
لذا تهدف الحملة وبعض المتضامنون معها إلى تغيير المادة 95 من قانون الأسرة في الشق الجعفري لتكون مثل نظيرتها في الشق السني التي حددت أن لا يزيد مبلغ البذل على المهر.
من جديد، يرفض رجال الدين أي تعديل على هذه المادة لأنها حكم من أحكام المذهب، ويعتبرون أن الخلع الذي يتم دون شروطه الشرعية -بما فيها ما تضمنته هذه المادة- باطلًا، وتبقى المرأة على إثره متزوجة.
أخيرًا أقول، قد يكون تغيير هذه المادة في الوضع الحالي أمرًا شبه مستحيل سيستدعي صراع ليس أقل من أي صراع سياسي شهدته البحرين، إذ أن تغيير هذه المادة يعني تجاوز المادة الثانية في القانون التي تنص على أنه "لا يتم تعديل هذا القانون إلا بعد موافقة لجنة من ذوي الاختصاص الشرعي من القضاة وفقهاء الشريعة الإسلامية المتخصصين في الفقه السني والجعفري، على أن يكون نصفهم من قضاة المحاكم الشرعية، ويصدر بتشكيلها أمر ملكي".
قدمت هذه المادة على أساس أنها الضمانة على أن لا يتم تغيير مواد القانون من قبل غير المختصين، إلا أن رجال الدين رفضوها باعتبارها مادة في القانون يمكن تغييرها كأي مادة أخرى، وأصروا على أن تكون الضمانة مادة في الدستورغير قابلة للتغيير، وتجاوز هذه المادة الآن وبهذه السرعة سيثبت صحة مخاوفهم، ويثير حفيظة الشارع الشيعي الذي سيرى في ذلك تعدّي على الشرع والأعراض والأنساب عبر سنّ قوانين للزواج والطلاق تنافي الحكم الشرعي.
كما أن تغييرها في واقع الأمر لا يحل شيئًا من المشكلة، بل على العكس ينتج مشاكل أكبر إذا حكم القضاء بطلاق امرأة لكنها بالنسبة للشرع الذي تؤمن به وتحتكم إليه متزوجة. تغيير المادة 95 هو حل سريع عفوي كسول لن يضمن للمرأة البحرينية حقوقها ولا خلاصها، والحل يكمن في حوار وعمل جاد يشرك فيه بنات الوطن وأبناؤه في التوصّل إلى القوانين التي يرتضونها. الحل يكمن في أن يكون المواطن مصدر السلطات.
سلسلة الأحوال الشخصية هذه هي في جوهرها امتداد للواقع السياسي في البلد، الذي تسوده غياب الثقة وآليات الحوار وصناعة القرار، والاحتقان السياسي المستمر، وكما جرت العادة، تقع النساء ضحية لتنظيمات أبوية تضع قضاياهنّ في مرتبة متأخرة ومادة صراع سياسي عوضًا عن البحث في المشكلات والحلول الفعلية يمكن أن تمنح النساء حياة كريمة ومواطنة كاملة في أوطانهنّ.