حياة عملية.. وأكثر

لقد كنت طالبة مجتهدة، وهذا تقريبًا كان كل ما أنا عليه خلال 12 سنة دراسية في المدرسة، تخرّجت بمعدل مرتفع، ولا أقول ذلك للتفاخر (رغم أنه كان يجلب لي الكثير من الفخر)، لكن لأضع سياق لهذه التدوينة.

كانت درجاتي هي قيمتي، وهي ما يعرّفني ويحددني.

ورغم ذلك لم أكن على ثقة مما سأدرسه في الجامعة، فقد تقلّبت رغباتي وتغيّرت خلال الأعوام لكن ظلّت الكتابة شيء رغبت في أن أمارسه، لا أدعي تميّز أو شغف استثنائي أو أنني أملأ الصفحات يوميًّا، لكن التعامل مع اللغة والكلمات شيء كان ومازال يذهلني، وهذا هو مصدر الرغبة.

استقريت في الأخير على حلم الصبا، ودرست الصحافة في جامعة البحرين، تخرجت وأنا أعرف شيئًا ما عن ما تتطلبه الصحافة، مداخلها فلنقل والعتبات الأولى، لكن لأني في البحرين فقد علمت منذ وقت مبكّر -ليس بما يكفي- بان العمل في هذا التخصص ليس بالخيار المتاح، أو على الأقل فرصه محدودة بالنسبة لي.

في غضون أسابيع حصلت على عرضي الوظيفي الأول في تخصص لم أهتم به مسبقًا، لا أعرف أبجدياته، ولا أعرف ما المطلوب مني فيه أصلًا، هو بالنسبة لي مثل تخصص "نظم معلومات"، هل يعرف أحد ما يفعل خريجيه سوى إخبارنا أن نعيد تشغيل الجهاز؟ (بالمناسبة، هناك مسلسل اسمه The IT Crowd، ممتع ومضحك، يمكنكم متابعته إن لم تكونوا قد فعلتم من قبل)

قبلت العرض الوظيفي على وعد أن جهة التوظيف ستعلمني وتدربني، إلا أن المؤسسة التي توظفت بها جديدة نسبيًّا، ولم يكن معي سوى زميل واحد، فإلى جانب أنهم لا يعرفوا الكثير ليعلموني إياه، كانت تقع على عاتقي مسؤوليات كثيرة، وكنت أرتدي الكثير من القبعات حتى أنني أخطأ فيها أحيانًا. على كل حال تعلّمت المطلوب مني (أو ما تيسّر لي) من خلال القراءة في بعض المواقع الإلكترونية وبدأت العمل بخطوات صغيرة جدًّا ومترددة، ولم يمض الكثير حتى استقال زميلي لينتقل إلى وظيفة أخرى وبقيت وحدي مسؤولة عن كل شيء، بنصف راتب ودون تدريب ولا رفقة!

بعدها بفترة تيسّرت لي فرصة تدريبية (internship) في أحد المؤسسات الكبيرة، في نفس التخصص الذي كنت قد وظفت لأعمل فيه بالأصل في المؤسسة الأولى، لكنها فترة تدريبية لمدة 3 شهور، لا ضمانات ولا مستقبل يمكن استشرافه، إلا أنها فرصة جيدة بالنسبة لي؛ تدريب والتقاء بآخرين في ظرف صعب بالكاد نرى فيه أحدًا ناهيك عن أنني شخصية انطوائية بالأصل فالدائرة التي كوّنتها حولي خلال 12 سنة مدرسة و5 سنوات جامعة هي دائرة صغيرة جدًّا لا تتعدى أصابع يدك! لذا كنت أتوق لشيء ينتشلني من الوحدة، لأن ألقي التحية صباحًا على أحد وأن أتشارك حديثا عابرًا عن مطعم أشتري منه غذائي لهذا اليوم.

أقدمت على الفرصة التدريبية وأعلمت جهة عملي بذلك، وصرت الآن أجمع بين عملين!

في البداية كان الحماس، والحماس وحده..

صرت أنام مبكرًا وأستيقظ مع الفجر، أمارس اليوغا، أحضّر وجبة الإفطار، أخرج باكرًا وأصل إلى جهة العمل قبل بدء الدوام حتى أن أنوار المكتب تكون ما تزال مطفأة عند وصولي، أقوم بالمهام المطلوبة مني بكفاءة، وقد أثنت عليّ مسؤولتي غير مرة، أعود إلى المنزل فأبدأ في عملي الثاني (الأول) وأنجزه بشكل أفضل مما كنت أفعل حينما كان عملي الوحيد، وفي هذا الزحام أجد وقتًا لمشاهدة حلقة ربما أو اثنتين. كنت أستمتع بالتجارب الجديدة وأستلذ بالتعب وعيني مصوّبة على أهدافي.

ثمّ بدأ الإرهاق، أصبحت الدوامة تحرمني من الكثير، من ممارسة هواية أو قراء كتاب أو الخروج مع الأصدقاء، أو -وهو الأهم- من الجلوس بهدوء والاسترخاء.

أتممت الآن شهرًا ونصف، الأهداف التي بدأت من أجلها لا تقترب كما كنت آمل، التعب أخذ مأخذه، وأصبحت أقل تركيزًا في العملين.

الوضع ليس كارثيًّا، يمكن القول أنه تحت السيطرة، لكن بالنسبة لي، كشابة ما زالت تتخبط، لا تعرف بالضبط ماهي نقاط قوتها وضعفها، كثيرة القلق وتعاني من تقدير ذات منخفض أغلب الوقت ومتلازمة الدجال، فإن أي خطأ أو إخفاق سرعان ما يتحوّل إلى حفرة كبيرة من كراهية النفس وحلقة  تنمّر ما كنت لأقبل بها لأي أحد، وليس لأنني مهذبة جدًّا ولكن لأنني وبصدق لا أعتقد أن هناك إنسان بالسوء الذي أنسبه لنفسي مرارًا وتكرارًا.

في الحياة الرأسمالية فإن الناس يقيسون قيمتهم الذاتية بمدى إتقانهم / إنتاجيتهم في أعمالهم، تتمحور الحياة بشكل كبير حول العمل أكثر من الأشياء الأخرى، فتخيّل أن يجمع أحدٌ بكل القلق الذي أنا عليه بين عملين!

أي مشكلة صغيرة أو عقبة أخرى تظهر خلال اليوم تكون القشة التي تقصم ظهري في ذلك اليوم، وإذا كنا نعرف شيئًا واحدًا عن الحياة فهو أنها تلهو بنا وتسخر، لذا فظهري مكسور محدودب لفرط ما رمتني الحياة بقشّ وضحكت.

هذه قصة عملي خلال الـ6 أشهر الماضية، فترة قصيرة جدًّا، لكنها مضنية.

Join