الغوغائية السياسية في القصيدة الحسينيّة: شيخ حسين الأكرف أنموذجًا

تمهيد (1/4)

المنبر الحسيني هو الشكل الإعلامي الأبرز والأكثر شيوعًا في المجتمعات الشيعيّة، وهو إعلام فاعل ومتفاعل مع جميع المتغيّرات السياسية والاجتماعية التي تشكّل ثقافة المجتمع.

وعليه، فله دورٌ بارز في تشكيل الوعي واللاوعي في الأوساط الشيعيّة، ورغم أنه تأثير لايمكن قياسه في هذه العجالة، ولربّما احتاج إلى بحث مستمرّ، إلا أنه يمكن بكلّ تأكيد الجزم بكونه تأثير بالغ الأهميّة ومتسع الرقعة بالنظر إلى حجم انتشار قصائده -أي المنبر-، واستحضارها في الذاكرة وإعادة تداولها كلما استجدّ جديد في الساحة، وترديدها على الألسنة ومواقع التواصل الاجتماعي.


والعزاء البحريني على وجه الخصوص عزاء مرتبط بالهاجس السياسي، ففيه المطالبات الشعبيّة بالبرلمان، وفيه المعارضة لسياسات الحكومة، وفيه نصرة قضايا المسلمين وتمثيلها كما يراها المجتمع الشيعي في البحرين، ومواكبه عندنا تعمل عمل الأناشيد العسكريّة أو الثوريّة التي تنشر روحًا حماسيّة وتعزز المفاهيم والقيم المجتمعيّة وتعبّر عن أحوال الناس وهمومهم.


ومن هذه العوامل اكتسبت هذه المنصّة أهميّة لتحليلها ودراسة المضامين والرسائل التي تبثّها وتسهم من خلالها في تشكيل وإلهاب حماسة الرأي العام، لذا أتأمّل هنا في سلسلة مقالات بعض المعاني السياسية التي رسّختها القصيدة الحسينيّة في الوعي الشيعي، والمفاهيم المنتشرة التي تنعكس في هذه القصائد.


وقد أخذت مسيرة شيخ حسين الأكرف كمثال لما تميّزت به لطمياته من ثقل في المضمون العقائدي والسياسي، ولشهرته الواسعة، ولكنّ قبل الشروع في تحليل هذا المضمون، نطّلع على موجز لسيرة الأكرف:

سيرة الأكرف

شيخ حسين الأكرف هو رادود بحريني من قرية الدراز، ولد عام 1972، والده "أحمد علي الأكرف" أيضًا رادودًا وشاعرًا حسينيًّ، بدأ نشاطه كرادود في بداية الثمانينات، وأصبح اليوم من أبرز الرواديد والمنشدين، وذلك لأسباب عدّة: فمن غزارة الإنتاج، والتطرّق للقضايا التي تشغل المحيط العربي والإسلامي، وأخيرًا  الاهتمام بالموكب من ناحية القصائد واللحن والتجديد فيه، ففي عام 1992 أسس لمدرسة عزائية جديدة عُرِفت بـ"مدرسة تعدد الألحان"، تنوّعت فيها ألحان القصيدة الحسينيّة وأوزانها وإيقاعها.


سافر للنجف الأشرف لدراسة العلوم الدينيّة في نهاية الثمانينات، وعاد عام 1991 إثر حرب الخليج، سافر بعدها لقم المقدّسة ليلتحق بالحوزة العلميّة هناك، وعاد إلى البحرين مجددًا عام 1995.


اعتقل -على فترات متقاربة- مرّتين أثناء انتفاضة التسعينات، الأولى دامت لمدة ستة أشهر والثانية أربع سنوات و10 شهور.


في السجن ككل طلبة العلوم الدينيّة أخذ يدرّس المعارف التي سبق ودرسها للسجناء، وساعد عدد منهم على تعلّم الخطابة الحسينيّة بسبب خبرته، ورغم الإفراج عنه بمكرمة أميريّة، إلا أنه مُنِع من المشاركة في المواكب الحسينيّة حتى جاءت الانفراجة عام 2000 بعد وفاة الأمير عيسى بن سلمان آل خليفة وتولي ابنه الأمير -آنذاك- حمد بن عيسى آل خليفة.


عاد بعدها للمواكب والمآتم وأصبح موكبه يستقطب أعداد كبيرة من المعزّين لما عرفت به قصائده من قوّتها وألحانه من حماسته، إلا أنه غادر البحرين بعد ثورة 2011 فيمن غادروا لأن احتمال استهدافه من جديد كان واردًا.


يعيش الأكرف اليوم في دولة الكويت ويواصل إصدار اللطميّات والأناشيد في شهر محرّم بشكل دوري، كما يصدر الأناشيد التي تتفاعل من الأحداث السياسية كلّما استجدّ فيها جديد، بالإضافة للتدريس في الحوزة والعمل على التأليف.


يعرف عن شيخ حسين شدّة مناصرته للثورة الإسلاميّة الإيرانيّة وتأثره بها ككل أبناء جيله، بالإضافة لتمسّكه بما يعرف في البحرين “الخط العلمائي”، وهو النهج السياسي الذي يقوده رجال الدين من أمثال الشيخ عيسى أحمد قاسم والراحل الشيخ عبدالأمير الجمري.


عُرِف في البحرين والوطن العربي بكلًّا من لطمياته الحسينيّة وأناشيده السياسيّة الثوريّة، كما اشتهرت له بعض الأناشيد الوجدانية، تنامت شهرته في لبنان عندما أنشد للمقاومة الإسلامية، حتّى أنه حضر في الجامعة اللبنانيّة للقاء مع الطلبة وهناك أنشد بعض أناشيده، عدا عن إنشاده في مجمع سيد الشهداء في الضاحية الجنوبيّة أكثر من مرّة، وفي الربيع العربي قدّم عددًا من الأعمال سنتطرّق لها لاحقًا إلا أن أبرزها هو إنشاده "موطني".

محطّة

بعد قرابة سنة على انطلاقة الانتفاضة في 1994، كانت له مشاركة عزائية بمناسبة استشهاد فاطمة الزهراء (ع)، فألقى إحدى أهم اللطميات في تلك المرحلة والتي بقيت خالدة حتى اليوم، بعنوان: سكني روع النفوس"، ترسم هذه اللطمية صورة للعنف الذي واجهته المعارضة، وتذكر الشهداء والجرحى والرموز مثل الشيخ عبدالأمير الجمري:


نقشنا بالجراح آية الموت العنيدة

وفوق القبر قمنا انها روح جديدة

تعالي للحنايا نستمع منكِ القصيدة

إلى حيثُ أباحوا منك دما بنشيدة

الى حيث أطلّت صفحة الطفّ المجيدة

بدمٍ نينوي و حكايات عديدة

(…)

من يضم القلب هذا إن شكا يوما ألم

أو جرى من نحر حر أو من الأجيال دم

من ترى يحنو عليه في الليالي و الظلم

بأياديه ينحي كل خوف و ندم

ذلك الجمري حبي و حياتي

بطلٌ قام حياتًا للرفات

للصلاة.. وهو آتي.. بالثباتِ


بعد انفراجة عام ألفين والسماح له بالمشاركة في المواكب العزائية كانت أول قصيدة له بعنوان "علميني واصنعيني"، ورغم أنها ليست لطميّة سياسية، إلا أن ما أعقبها كتب للأكرف مرحلةً جديدةً امتلأت فيها لطمياته بل وأناشيده بالمعاني السياسة بشكلٍ صريح وجريء، تزامن ذلك مع المرحلة التي دخلتها البلاد بعد الإعلان عن دستور 2002، وسنأتي على ذلك بالتفصيل في الجزء الثاني من السلسة..


ملاحظة: سلسلة المقالات هذه مستوحاة من مقال "عن كربلاء في أناشيد حزب الله | من الخميني إلى سوريا"

Join