أيّام فقدت عدّها في الحجر المنزلي
هذا هو الأسبوع الثالث من الحجر المنزلي، أو الأول، لقد فقدت عدّ الأيام لتشابهها
وبتّ لا أعرف التاريخ ولا واليوم ولا كمّ مرّ، لقد غفلت تمامًا حتّى أنني نسيت موعد دورتي الشهرية وصمت ذلك اليوم حتى الدقائق الأخيرة قبيل المغرب.
الجلوس في المنزل ليس وضعًا جديدًا علينا كعائلة، فنحن لا نخرج كثيرًا بطبيعة الحال، معظم نزهاتي مع آخرين، إلا أن ما يزعجني هو تواجد جميع العائلة في المنزل طوال اليوم، وافتقاد الزيارات العائليّة التي كانت تعبث بروتيني.
لطالما اعتقدت أن العيش مع العائلة بعد العشرين ليس أمرًا صحّيًّا أبدًا، وهذا الحجر يثير جنوني لاستحالة الحصول على قدرٍ كافٍ من الهدوء.
ورغم ذلك فإني فضولية بعض الشيء لمعرفة كيف سيؤثر في حياة أسرة من 6 أشخاص لا يجد أفرادها سوى بعضهم البعض لأيام طويلة في حبس مجهول الأمد.
يذكرني الحال بعض الشيء بمذكّرات "آن فرانك"، الطفلة اليهودية التي اختبأت مع عائلتها لعام أو اثنين قبل أن تصل إليهم القوات النازية.
عندي فضول لمعرفة ماذا سيفعل الناس بعد أشهر من العزل؟ كم منهم سيقتلون بقية أفراد المنزل فقط ليحظوا بعصرية هادئة يشربوا فيها كأسًا من الشاي بسكينة؟
كم من الزواجات ستنتهي؟ وكم سيزداد التعداد السكني للبشر على الكرة الأرضية؟
وكيف ستؤثّر العزلة على حياة الأفراد؟
الذي سيكتشف منهم أنه أمضى ثلاثين سنة من عمره هباءً، ومن سيعيد ترتيب أولوياته لوضع الأمور في نصابها من جديد، والمفاهيم التي سيعاد تعريهفا: الغايات، الأهداف، السعادة، الإنجاز...الخ.
شخصيًّا كل ما أريده هو أن ينفذ إليّ شيء من السلام، وأن يتوقف سباقي المحموم مع الزمن.
ليست مشكلتي في الحجر مع الملل، فكما قلت الجلوس في المنزل أمرٌ اعتيادي بالنسبة إليّ، بل إنه مفضّل جدًّا ومحبّب، مشكلتي هو القلق.
وفي ذلك تفصيلٌ ليس هذا مقامه، ولكنّ أحد مسببات القلق عندي هي كذبة استثمار الوقت، والإنجاز.
أخشى الوقت الضائع أكثر مما يخاف الصغار من قصص الجنّ في البرّ أو الشبح المتمدد تحت السرير، وأقسم أنه يعود إليّ ليروّعني.
ولا أعني بالإنجاز إكمال 10 كتب في الأسبوع والعمل في 3 وظائف عن بعد، فشيء من التسلية أيضًا أعدّه إنجاز، مثل أن أشاهد حلقة من المسلسل الذي أتابعه، أو فيلم، المهم أن تكون هذه المتع "مُجَدولة".. أي أن تكون على قائمة أعمال اليوم.
وأنا لا أبالغ إن قلت أنني أضع أتفه المهام على قوائمي، أيام الجامعة مثلًا أعد قائمة لما يجب القيام به في الأوقات الفاصلة بين محاضراتي -وهي كثيرًا ما تكون طويلة جدًّا-، تتضمن هذه القوائم حتّى الصلاة والغذاء، ولكل شيء وقت مقدّر لا يمكنني التسامح مع نفسي إن تجاوزته.
ويقلّ تسامحي المحدود هذا في العطل الطويلة، فما عذري إن لم أكتسب خلالها 3 مهارات جديدة وأقرأ 5 كتب كل أسبوع؟؟؟؟؟
أصاب بالإحباط إن لم أستطع القيام بكلّ ما خططت له، وبما يبدو سهل القيام به على الآخرين، وأكره نفسي، وإذا أتممت القائمة فإن الشعور باللاجدوى ينهش روحي في آخر اليوم ويجافيني المنام ويرهقني الأرق، وبذلك أدخل في ودوّامة من الإرهاق للأيام التالية والمزاج المتعكّر والغرق في حزن وجودي.
أقضي وقتي هذه الأيام في تعلّم مهارة الخطّ، أقرأ كتابين حاليًّا ويعذّبني أنني أستغرق كل هذا الوقت فيهما، أحيك كنزة صوف رغم انقضاء الشتاء، أتابع مسلسل، وأحاول تصفية قائمة الـ”الإشارات المرجعيّة” في تويتر، كما قد بدأت ممارسة اليوغا -لأنني بحاجة لتحريك عضلاتي حتّى لا تصاب الضمور التامّ لكثرة الجلوس، وهذه الرياضة التي تتطلّب أقلّ قدرًا من المعدّات: سجّادة فحسب-، بالإضافة طبعًا لمتابعة دروسي عن بعد والقيام بالواجبات.
قررت أمس أن أرتجل يومي وألّا أحضّر قائمة مهام، في جهودي لوقف السباق العبثي مع الزمن، وفي الواقع فقد أعددت قائمة ذهنيّة لكن قصيرة.
جرّبت إعداد الخبز -وككل تجاربي المطبخيّة- فشلت المحاولة، حينها جثم عليّ الشعور بالفشل، تضخّمت في عينيّ الـ24 ساعة المهدرة وكأنها عمر كامل.
ورغم أنّي لا أعلق شيء من الآمال، ولا أملك أي من الغايات أو الأهداف الكبرى حيال هذا العمر الذي أعيشه كلّه بارتجاليّة، وبإدراك مسبق بأنه مهدور، وأعرف قبل رحيله أنه خيط دخان، ولكنّ ضياع يوم واحد عشوائي منه يقصم ظهري.
أعدت المحاولة هذا اليوم، ولم تكن النتيجة بأفضل كثيرًا من سابقتها.
ينتابني حزنٌ عميق، وقلق وحشيّ.
حزنٌ من كل ما حدث، مما لم يحدث، مما أنا عليه، وما لم أكنه، وما لا أستطيعه ولا أعرفه ولا أجيده.
وقلق بسبب كل ما يمكن أن يحدث، من الضجيج والهدوء، قلقة لأني لست جميلة بما يكفي ولا ذكية كما ينبغي ولا فنانة كما أحتاج.
أشرب الآن الشاي بالنعناع في سكينة واسترخاء بالغ وأستذكر نصًّا قرأته البارحة لفرناندو بيسوا:
الإحساس بأصغر الأشياء مفرطة الغرابة