حكم الجاهلية.. النسوية على المنبر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (سورة المائدة – آية 50).
هكذا يبدأ شيخنا محاضرته عن النسوية، فتعرف أنه حسم أمره؛ تريد النسوية حكم الجاهلية. ثم يمضي ويخبرنا كيف أن النسوية تقود للإلحاد.
لا يبدو خطابًا مستغربًا ولا متعارضًا مع كل أنواع الخطاب الديني عمومًا، يشبه توبيخ الوالد: سيجارة اليوم ومخدرات غدًا؟ تلعب في النادي الآن وتترك الصلاة تدريجيًّا! لا تعرف كيف تحديدًا وصل الوالد لهذا الاستنتاج، تتندّر منه بينك وبين إخوتك، وفي آخر الضحكة تهمهم: ما تدري شلون يفكرون.
ندري كيف يفكّر شيخنا هذا، مجموعة اقتباسات مجتزأة من هناك وهناك يسهل الحصول عليها ببحث مستعجل على قوقل، ودراسات منتقاة تؤكد انحيازاته المسبقة، ويعتقد أنه جاء بالحجّة المؤكدة لدحر النسوية الملحدة.
“بس سمعتين شيخ ….”؟
سمعت عدد من المحاضرات، قرأت، ناقشت، لكن مشكلات الخطاب الديني بقيت هي هي، ورغم أنني توقفت منذ فترة عن البحث في هذا الخطاب عن إجابات، إلا أنّي ما زلت أشعر بالخيبة في كل مرة أسمع إحدى هذه المحاضرات.
هذه الخيبة مدارها أمران:
الأول هو أن الخطاب لا يتقدّم، لا يتطوّر، لا يغير من أساليبه. مثال “هل ستعملن في ورشات تصليح سيارات؟” ما زال موجودًا! وهذه الحيلة تذكرني بحيلة أخرى يستخدمها الرجال: تشجعين برشلونة؟ حسنًا، عددي جميع اللاعبين مذ تأسيس النادي حتى اليوم. وكما أن صاحبنا لا يعرف غير ميسي وهو الآن يمر بأزمة وجودية بعد الحادثة الأليمة، فهو لا يعمل في ورشة ولا يصلح عطلًا كهربائيًا في منزله لكن حيلته للتهوين من النساء هي أنهن غير قادرات على البنيان وإصلاح السيارات، ورغم أن هناك نساءً دخلن طوعًا في هذا المجال لأنهن يحببنه، ولأن دخولهن يعني التسهيل على النساء حين يقصدن ورشة تصليح سيارات، إلا أن حبيبنا الذكوري لا يرى في هذا إلا تعدي على منطقته وصورة تنافي صورة الأنثى في مخياله. أنتنّ نساء، لا تفهمن في السيارات ولستن قادرات على إصلاحهنّ وبالتالي لا يجب أن تعملن في شركة اتصالات.
الثاني هو التسطيح الذي يفاجئني حتى رغم تشاؤمي، يخطب الرجل فيهم فتحسبه على قدر من رجاحة العقل، حتى يتكلم عن حقوق النساء فيغدو غير قادر على التوصل إلى نتيجة منطقية من مقدمة واضحة.
النسوية وربة المنزل..
الانفصال عن واقعنا كنساء وتهميشنا يلعب دورًا أساسيًّا في الحوار الأحادي المهلهل هذا، فهم لا ينظرون إلينا خارج أدوارنا الجندرية في إطار الأسرة، لا يسمعون حاجاتنا، مشكلاتنا، شكوانا، ورغم ذلك يعتبرون أنفسهم مؤهلين للحديث عنها!
تسمعهم يحذّرون من النسوية التي تريد إخراج النساء من بيوتهن إلى مصانع تسحق إنسانيتهن كأنك تسمع تسجيلًا من ثمانينات القرن الماضي، ورغم أني لا أدري لم لا يقلقهم سحق إنسانية الرجال رغم الحرص الواضح على الإنسانية، لكني أتعجب من حديثهم هذا مع أننا كنسويات ننادي بأن يكون للمرأة حق اختيار مكان عملها، داخل المنزل أو خارجه، دون ضغوط ودون إشعارها بأن أحد الخيارات سيجعلها أقل قيمة وصلاحًا، أو إرغامها على التخلي عن أحدها. ننادي بأن يكون العمل المنزلي معترفًا به، مقدّرًا ماديًّا ومعنويًا، محترمًا وغير مسلم به ومقطوع بأنه من واجباتها. ننادي بأن تكون التسهيلات متوافرة للنساء أيًّا كان خيارهنّ.
لكن الأبوية التي يركن إليها رجل الدين، والرأسمالية التي وإن خالفها ظاهرًا فإنه يتماهى معها، يروق لها استغلال النساء مقابل رمنسة التضحيات التي يقدمنها مرغمات.
يعرّف شيخنا أنوثتنا ويمحورها حول حاجات الرجل ورغباته، يدّعي أن المرأة تسعد بأن تتخلّى عن أحلامها وحياتها لتغسل الأواني وتمسح الأرضيات وتغير الحفاظ وتطبخ الوجبات، بالفطرة، دون أن يقف ليسائل معنى الأنوثة أو الفطرة، على عكس النسوية التي تسائل وتعيد التعريف وتقترح أنماطًا جديدة أكثر اتساقًا مع حاجات النساء.
ما لا يعرفه رجل الدين هو أن النسوية ليست من "زنّت في رؤوسنا" لنعطي الأولوية لحياتنا، لنسعى لتحقيق ذواتنا، وللأمان اقتصادي، بل ربّات المنازل. أمي فعلت، جدّتي حين قالت: “لاحقين على العرس، أهم شي ادرسي واشتغلي”، القريبات اللواتي قلن أن السبب الوحيد الذي يبقيهن في زواج لسن سعيدات فيه هو أنهن لا يملكن موارد مالية، تلك التي أسرّت لي: حتى اللقمة محسوبة علينا يا حنان.
تخاف هؤلاء النسوة من النسوية، يصدقن رجل الدين الذي قال أنها إلحاد، لكنهنّ السبب وراء نسويتي.
ليست مشكلة حقيقية..
تجاهل الرجال لنا ولقضايانا، سواءً كنّا ربات منازل، عاملات، نسويات، غير نسويّات، يحجب عن إدراكهم حقيقة أن النسوية هي منظومة مفاهيم وحلول تنطلق من واقعنا كنساء، واقعنا جاء أولًا ثم جاءت النسوية. عدم اكتراث المنبر لهذا الواقع يُنتج هكذا خطاب حتى في أحسن حالاته لا يتجاوز إعادة صياغة العبارات دون تحريك المعنى؛ هل رأيتِ كل هذه المشكلات التي تعانين منها؟ حسنًا.. في الواقع هي أمر جيّد وغرضها نبيل ولا قيمة لما تشعرين به وما تمرين به كل يوم.
المشكلة الأولى
وهذه هي المشكلة الأولى، أي كلام عن النسوية لا تبدأه بتعريف المشكلات ومن ثم تقديم الحلول الملائمة هو خطاب "مأكول خيره". وتعريف مشكلات النساء ومعرفة قضاياهم يتطلب إعطاؤهن المساحة ليعبرن هنّ عن أنفسهنّ بدلاً من سواهنّ.
الحل الأول
المشهد الذي يجلس فيه رجل على مكان مرتفع ليقابل رجال آخرين يشرح لهم كيف أن مطالبات النساء بحقوقهنّ ومناقشتهنّ في المفاهيم والمسلّمات منافية للدين والعدل والحق والخير مشهد بائس معبّر عن جوهر الأزمة ولا يمكنه تخطيها، والحل الأول هو تغييره: اعطوا النساء المنصة، واسمعوهنّ.