“أشد سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوله لا يتقدم إلى نهاية”.
مع كل إقتباس وصفحة من كتاب ومقال لرافعي أجد نفسي في بحث مستمر عنه لم تكن كتاباته بالعادية أو البسيطة التي نقرأها ونمضي دون أي إضافة، لم أجد في كتابات الرافعي إلا كما قال مصطفى كامل: "سيأتي يومٌ إذا ذُكرَ فيه الرافعيُّ، قال الناسُ: هو الحكمةُ العاليةُ مَصوغَةً في أجملِ قالَبٍ من البيان."
فحكمة الرافعي، تصوره، فلسفته، صياغته و إِنتقاءه، وجزالة كتاباته ،صنعت سمو تلك الكتابات و رائع الأثر وجميله حتى قيل به الأديب المصقع، الحاذق ، الفصيح، اللبيق، الشجاع، الثقف، اللقف، فارس ميادين العربية وآدابها ولقب بمعجزة الأدب العربي، ولأن البيئة والمصاعب والتحديات تصنع المرء غالبًا ولها الأثر الكبير، عدت للبحث عن سيرة الرافعي في محاولة لمعرفة سر تلك الحكمة والبيان..
ولد الرافعي في بيت دين وعلم في مصر، فوالده كان قاضياً شرعياً، وترأس الكثير من المحاكم في مصر، حفظ الرافعي القرآن، وتأثر بالثقافة الدينية التي شكلت اتجاهاته، بدأت تتضح لي إجابات تساؤلاتي لا سيما بعد أن علمت بأن الرافعي أصيب بمرض يسمى "التيفوئيد" في طفولته، مما أثر في أذنيه بعد ذلك حتى فقد السمع نهائياً في الثلاثين من عمره تقريباً، فاضطر أن ينقطع عن التعليم، ورسمياً لا يحمل سوى شهادة الإبتدائية.
بعدها لجأ إلى التثقيف والتعليم الذاتي، فلزم مكتبة أبيه المليئة بكتب الفقه، والدين، واللغة العربية، فكان لها الأثر الكبير في تكوينه، كان صممه دافعًا قوياً ليكتب، فيقول: «إذا عجز الناس أن يُسمعوني، فليسمعوا مني»، وكان يتحدث الفصحى ولا يعرفُ من العامية إلا القليل، نظرًا لانقطاعه عن دنيا الناس في أغلب الأوقات وعزلته.
سبحانك يا من لا يقال لغيره : سبحانك ! خلقت الإنسان سؤالا عن نفسه وخلقت نفسه سؤالا عنه ، وخلقت الاثنين سؤلا عنك ، وما دام هذا الإنسان لا يحيط به إلا المجهول فلا يحيط به من كل جهة إلا سؤال من الأسئلة ، ولا عجب إذن أن يكون له من بعض المسائل جواب عن بعضها، هذه هي الطريقة الإلهية في دقائق الأمور : تجيب الإنسان الضعيف عن سؤال بسؤال آخر !
مصطفى صادق الرافعي, رسائل الأحزان
بدأ الرافعي حياته الأدبية شاعرًا، وكان لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وأخذ ينشر شعره ومقالاته في المجلات التي كانت تصدر آنذاك، وقد أخرج الجزء الأول من ديوانه سنة 1900م، ثم تلاه الجزآن الثاني والثالث، ومن هنا دخل "الرافعي" إلى مجال الشهرة الأدبية؛ إذ تبنى نشر شعره الشيخ "ناصيف اليازجي في مجلة (الضياء) سنة 1903م.
ثم أخرج الرافعي بعد ذلك ديوان (النظرات) سنة 1908م، ثم كتب في تاريخ آداب العرب وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأضاف إلى العربية فنًا جديدًا من فنون النثر لم يسبقه إليه أحد، وهو فن الرسالة الأدبية وذلك من خلال كتبه الثلاثة "رسائل الأحزان" و"السحاب الأحمر" و"أوراق الورد"، ومن الإنتاج المتميز للرافعي كتاباه: "تحت راية القرآن"، و"وحي القلم".
تميز الرافعي بالأصالة الإسلامية التي تتضح في نشأته وحتى مماته، فبيته الذي نشأ فيه غرس فيه الروح الإسلامية، وظل ناشئًا معها محاطًا بها في كل أطوار حياته، ونرى السمة الإسلامية في نقده وثقافته، وفي إبداعه، و تميز الرافعي ايضاً بأصالة المعاني والألفاظ إن من يقرأ أدب "الرافعي" ويتمعن في سمو معانيه ودقة ألفاظه يقول: "إن هذا الرجل لم يعشْ في القرن العشرين؛ وإنما عاش معاصرًا للجاحظ وابن المقفع وبديع الزمان" ،و ينتمي الرافعي إلي مدرسة المحافظين وهي مدرسة شعرية تابعة للشعر الكلاسيكي.
الرافعي ناقداً،كانت بدايات النقد عند "الرافعي" بعض المقالات التي كان ينشرها في المجلات والجرائد التي كانت تنتشر في عصره، ومن أشهرها: مقال نشره في الجريدة، يحمل فيه على الجامعة وأساتذتها ومنهج الأدب فيها ،من أبرز نقده (تحت راية القران) و(على السفود)، وقد انتقد "طه حسين" ومنهجه كتاب (الشعر الجاهلي) في كتابه الأول، بينما انتقد العقاد في كتابه الثاني، وللرافعي معارك عده ابرزها مع طه حسين.
كان ذلك استعراض ونبذة بسيطة عن الأديب الرائع مصطفى صادق الرافعي، وكيف تحول من طفل احالته ظروفه الصحية لعدم إكمال دراسته الأمر الذي كان ذا وقعٍ كبيرٍ عليه آنَذاك، إلى عزلة وتعليم ذاتي، ثم لكاتب و أديب وصف بمعجزة الأدب العربي.
لم تعطني يا رب ما أشتهي كما أشتهيه ولا بمقدار مني، وجعلت حظي من آمالي الواسعة كالمصباح في مطلعه من النجوم التي لا عدد لها، ولكن سبحانك اللهم لك الحمد بقدر ما لم تعط وما أعطيت، لك الحمد أن هديتني إلى الحكمة وجعلتني أرى أن نور المصباح الضئيل الذي يضيء جوانب بيتي هو أكثر نوراًً في داخل البيت من كل النجوم التي ترى على السطح وإن ملأت الفضاء”
الرافعي
"قد عاش الرافعي حقبة فيها يغاث الناس وفيها يعصرون من نتاج أدبه الرفيع، وذوقه السليم، فعليه من الله أوفى الرحمات وأسبغُها، وكأني أنظر إليه، متأملاً كلماتِه الوقادة، وأساليبَه العذبة، ومنطقه الفذ، وهو قائم على منبره الأدبي واعظًا إخوانه، وقلبه يخفق حبًّا لهم، ويكأن العربية قد استحالت إنسانًا ينطق بلسان عذب يفوح على من حوله من درر تصاويره، وعذوبة أساليبه، على ما آتاه الله - تعالى - من حس مرهف، ونفس أبية، وعزيمة قوية"