الصديق: الإبرة في كومة القش
يشــخـــص بــصــــري حـيـنـمــــــــــا أقلب التغريدات في تويتر ويتناهى إلى مسمعي صوتاً جهورياً يبجل الانفرادية ويثني عــــــــــــلى الانعزال الدائم، مثلما لـــــــــــو كان ذلك إنجازاً أو وساماً يتحلى به الإنسان الذي ما أشد حــــــــــــــــاجـــته لـــــصديق يــشد أزره، ويقوي عزمه، ويربت عــــــلى كتفه.
ولــــــــــــن أســـتـــعـين بدراسات العرب والعجم العلمية فـــــــــــــي احتياج الإنسان لصديق، فذلك على العاقل جليّ وواضح، بـــــــــل سأمضي على طريق الوجدان وارتشف وإياكم كــــأساً بصحبة القلب واوجاعه. وفـــــي البدء سأشارككم أعجب ما قرأت في هذا الموضوع، ما قــــــــاله الأديب المصري زكي مبارك في صفات الصديق:
الصديق الحق هو الذي يدرك بوضوح أن الصداقة تفرض عليه أن يكون سنادك في جميع الأحايين، وأن يؤاخي من أخاك، ويعادي من عاداك، ولو كنت على ضلال، وهل يستطيع الصديق أن يرى في صديقه غير كرائم المناقب، وروائع الخصال
والصداقة قضية تناولتها الكتب والمسلسلات والقصائد، وأذكــــــــــر أن الطفولة ذهبت جلها فـــي رؤية الرسوم المتحركة التي غالباً ما تطرقت إلـــــى هـــــــــــذه القضية، مثل مسلسل عهد الأصدقاء الذي أٌخذ من رواية الاخوة السود للكاتبة الألمانية ليزا تيتزنر، حيث تحدثت عن صداقة ثلة من الاطفال جمعهم العمل الشاق في تنظيف مداخن مدينة ميلانو، ولا أخفي تأثري الشــــديد بهـــــــــــذا المسلسل الذي كـــــدت أن أتقمص شخصيته الشهيرة "روميو" الذي أقترن بصداقة وطيدة مع "الفريدو" وباتا بالـــــــنسبة لي رمزان يجسدان الصداقة المثالية، وظننت أن الفريدو موجود بأرض الواقــــع، وأن البحث عنه غير مضني، كما لو كان الأصدقاء متاحين على قارعة الطريق.
ويقال، أن يعيش الإنسان حياة دون أن يـــــفهمه أحد، هو ضرب من ضروب العذاب، وهنا تنكشف الثمار الناضجة المتدلية من بســــــــــاتين الخليل، وهذه من الخصائص التي ينعم بها الإنسان في حياة كريمة، حــــــــــــــــــين يصاحبك من يجيد معرفتك عبر كلمة تنطقها، ونبرة تهمهما، ونظرة تَرمْق بها.
والصداقة مسمى عظيم لا يطلق إلا عـــــــــلى أخص الخاصة، من كان قريباً من الفؤاد والروح، مطلعاً على أسرارها وخباياها، يعرف ما يـــجول في الخاطر، وما يقرقع في الخفاء، حين تنبسط روحك سكينة عند لقياه، وتنقـــــبض فور ابتعاده، تهرب إليه حين تضيق جدران العالم ذرعاً، وتتبدل ألوان الحياة ســــــــواداً، وتضعف بعد القوة، وتضيق بعد السعة، وتتكدر بعد البهجة.
والصداقة فـــعل وصفة يطـــول شرحـــهما، ولـــــست قادراً حتى الآن من الاقتراب من وصف جوهر المعنى الأصيل التي تنفرد بها هذه الـــــعلاقة المغايرة عن كل الارتباطات الأخرى، وبسبب هذه المواصفات المعقدة التي لا يجدها المــــــــرء في كل من يحادثه ويقابله، فإن إيجاد صديق حقيقي يشبه البحث عن إبرة بين كومة قش.
ولا يعني افتقاد المرء للصاحب أن يـــــبدل مفاهيمه ويـــــعظم شـــــــأن العزلة الدائمة والانطوائية التي قد تؤدي بــــــــــه للمهالك، فالصـــــــــــــــداقة لهــــــــــــــا مـــــــــذاق لذيذ يروي الروح المحطمة ويجمع شتات العقل والقلب، وإن كــــــــــــان وجـود الصــــــــديق أمر يصعب في بعض الأحيان توفره، فلا ضير من تمـــــــــــني ذلك الشــــــــخص الـــــــذي يسمع لك حين تتوجع، ويقاسمك البهجة والافراح والاتراح.
وكلما تقدمت يوماً في هذه الحياة، ســـاورتني شكوك حيال صعوبة الأمر، واتذكر أن إسلافنا العرب قالوا الصديق الوفي من المستـــــــــحيلات الثلاث، ولكن إيمان نابع من قلبي يمد يده ويأخذ بهذه العبارة ليضرب بهـــا عرض الحائط، فعقلي يرفض أن يصدق بإن الخليل الصدوق بات مستحيلاً، ولذا ارتـــــــضيت أن اشبهه بالإبرة بين كومة القش، حتى اخفف وقع ذلك على النفس، وأمنيها بصــــــــــــــدق وجوده، فالبحث في كومة القش لن يكون بتلك الصعوبة.
لا خير في الدنيا إذا لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفا
الإمام الشافعي
ولا شك أن وجوده فـــــــي غاية الأهمية، ولا أرى نفعاً من تلك العلاقات التي تزداد بها الثرثرة والهراء، ثم تنقض الجلسة دون أن تَفهم وتُفهم، فلا أرى اجتماعاً أصفى وأزكى من اجتماع القلوب المتآلفــــــــــة التي تعيّ بعضها، وما دون ذلك وجع يصيب الرأس وهم يشيخ القلب.