مع صديقي المكتئب
للتو قد فاحت رائحة القهوة السوداء في أرجاء المقهى والتصق عبيرها بأطراف يديّ، بينما أستند صديقي على مقعده ووضع يداه على الطاولة ومزج أصابعه ببعضها البعض ثم قرب وجهه منها، كما لو أنه شاهد فيلم عن كيف يدعِ راهب في صلاته، لكنّه كان بمثابة لوحة تجسد الانطفاء والبهوت.
ذابل الوجه، باهت الملامح، مُصفرّ اللون، التعابير الباردة استحلت تفاصيل ابتسامته، فقد الدهشة.. حتى عند انسكاب القهوة على ثوبه الأبيض، ربما لم يعلم عن الأمر إلا بعد شعوره بحرارةٍ على فخذه.
عندما أخبرني صديقي، بإن طبيبه النفسي أعلمه بتشخصيه بمرض الاكتئاب، حاولت رغم ضعف قدراتي التمثيلية بإن أتفاجئ، كنت متيقن تماماً بأنه مصاب بخللٍ ما، وجهه وسياق حياته تخبراني بذلك، حتى مشاركاته في حسابه على تويتر تغيرت، يقتبس كلام كافكا "أنا رخوٌ، أزحفُ على الأرض. أنا صامتٌ طول الوقت، انطوائيٌّ، كئيبٌ، متذمرٌ، أنانيٌّ وسوداوي" ولاحظت كيف يميل نحو الكتابات المريرة بشكلٍ ملاحظ وزائد عن الحد الطبيعي، مثل سوران حين يقول: كلما انصرف الآخرون عنّا ازداد عملهم من أجل كمالنا، إنهم ينقذوننا من خلال هجرنا". وشعرت بالخطر حينما بدأ هو بتأليف كلام من ذات المنبع، دون حاجته إلى اقتباس قول أحدهم.
غير أن معرفتي بصديقي منذ زمن جعلتني أزداد يقيناً بوجود أمر خاطئ، فأنا أتذكر الآتي:
شاب متحمس وشغوف، يعشق معرفة المجهول، يركض نحو زيادة محصوله العلمي، لا يتوقف إلا من أجل التقاط أنفاسه، ثم يعاود الركض من جديد. طموحاته غير مرتبطة بحد، ينسى ما فعل ويضع نفسه في نقطة الصفر في كل مرة يحقق منجز، ليعاود السير مجدداً، صديقي يأكل بيدهِ ولا يشبع، لطالما أشعرني بالفخر.
أخبرني عن نفحة الندم التي إمتزجت بالاكتئاب فأخرجت شعور في غاية السوء، سألته بعد أن دار الحديث عن تفاصيل عديدة، قلت: ماذا تقصد بالندم؟
في أحيان، يقاوم هذا الغريب الذي دخل حياته، يصرف ذهنه وقلبه نحو أمر اخر، يحاول أشغال ذاته.. لذلك في موقف غير مره، أعطى وعود في الحضور إلى اجتماعات عمل ومناسبات عائله وأصدقاء، لكنه يتخلف عنها، قال بأنه يتذكر كل مناسبة تخلف عنها، تمتلئ أصابع الكفان بهما. بالإضافة إلى أنه اجرى مقابلة عمل ووافق على الوظيفة، ولم يستطع الإكمال أكثر من أسبوع.
قال لي: "هذه ماهية الندم". ندم أن يعطي كلمته الثمينة إلى أحدٍ ما، ثم لا يفي بها، هو يندم لأن أولئك ينظرون له بكل تأكيد على أنه شخص لا يمكن إعطاءه الثقة، يكمل "الله وحده يعلم ماذا يقولون عني الآن!".
كان الاكتئاب يرافقه دائماً، ينتظره أن يشعر بالانتصار والمقاومة، ثم يكشر أنيابه وينقض عليه، ثم تلتف حول يداه القيود، ويعود خلف القبضان.. من الصعب أن تقول لأحدهم "أعتذر عن الحضور.. لقد أشتد الاكتئاب في هذه الليلة السيئة".
أصابته الانطوائية الشديدة، وملّ من قراءة الكتب، وصعوبات شديدة في النوم، وذهب شغفه أدراج الرياح، كان يغني لنشاطاته الممتعة "واسمحِ لي بالرحيل بلا تذاكر وامتعه". هناك شعور يحاول قوله عن الاكتئاب، يحاول وصفه كل مره بكلماتٍ عديده ثم يشعر بأنه ليس ذلك ما يشعر به حقاً، بل أمر أعمق من ذلك، يسهل الشعور بالاكتئاب ويصعب تعريفه الدقيق.
يتلفت لمن حوله باحث عن شخص يخوض معه محادثة جادة، بعيداً عن السطحية والتفاهة والسخافة التي ضجت بيئته بها، ثم لا يجد، مما يعطي الاكتئاب شرارة للأشتعال أكثر. تمر عليه بين الفينة والأخرى أفكار لمحاولة مغادرة هذا العالم، كثير ما وقف العقاب الرباني أمامه لمن يقدم على هذه الخطوة، ثم يتوقف عن التنفيذ..
تحول معنى حياته إلى كيف ينجو من يومه، لقد أصبح أقصى طموحاته الفرار من هذا العمل الشاق والطويل، الاستمرار بالتنفس والمضي في هذه الحياة هو عقاب كما يتصور.
أزداد الاكتئاب حينما خُذل من المقربين، ورحلت عنه نفائس نادرة على حد وصفه، لقد اعترف بسوءه في بعض المواقف، جعل الناس ينفرون منه، لكن عن غيرِ عمد، لم يقصد بأن يفعل أمراً سيء، يتسم صديقي بالسماحة والعفوية وسعة القلب، لا شك انه كثير العفو، وهو الأمر الذي لا يبادله أحد حينما يخطئ، وبما أني ذكرت الأخطاء، تذكرت ما قاله عن عقله الذي يحفز ذكرياته السلبية في الظهور، مروره بتجارب سيئة في الماضي كان تأثيرها تأثير طبيعي، وبرغبته وعنفوانه الجامح أستطاع أن يتجاوزها، لكن الآن تظهر المشاهد بشكلٍ مغاير، وأضحت مشاعره تنتج سوداوية مطلقة لا حدود لها.
بات مشتت بين الماضي والمستقبل، الأول يشد يده اليمنى، والثاني يشد يده اليسرى، لكن قبل أن يتفتت إلى أشلاء، حاول النهوض..
زار طبيب نفسي، ومعالج سلوكي، كانت حالته شبيهة بأولئك الأطباء الذين يقولون "الحمدلله! قدومك المبكر نوعاً ما، كان له تأثير إيجابي في مفعول العلاج". صديقي دخل إلى قسم الطوارئ وهو منبسط بكامل جسده على سرير متحرك، والدماء تخرج من حيث شاءت، كومة دماء وبقايا إنسان.
وبعد مرور أشهر من العلاج، ألتقينا على ذات الطاولة في المقهى، أستند صديقي على مقعده ووضع يداه على الطاولة ومزج أصابعه ببعضها البعض ثم قرب وجهه منها، كما لو أنه شاهد فيلم عن كيف يدعِ راهب في صلاته، لكنّه كان بمثابة عدّاء ينهض بعد تعثر مؤلم.
بالإمكان الآن أن أعلنها: صديقي عاود الركض حول المضمار مجدداً.