الجوكر‭  ‬الدُّمية‭ ‬الفلسفية‭ ‬لـ‭ ‬نيتشه


حيدر المعاتيق

ربما‭ ‬سمع‭ ‬الكثير‭ ‬أن‭ ‬فلم الجوكر JOKER 2019 لديه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬نقاط‭ ‬الالتقاء‭ ‬بأفكار‭ ‬وأطروحات‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭فريدريش‭ ‬نيتشه ‬Friedrich Nietzsche‬.

في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬سنحاول‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬نقاط‭ ‬الالتقاء‭ ‬هذه‭ ‬والإشارة‭ ‬إليها‭.

لكن‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الاتفاق‭ ‬بأنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كاتب‭ ‬السيناريو‭ ‬لفلم‭ ‬الجوكر‭ ‬قارئًا‭ ‬لنيتشه‭ ‬ومترجِمًا‭ ‬لفكره‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ملتحِمًا‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬فكرته‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬كسر‭ ‬المنظومة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬الموروثة‭ ‬وهدم‭ ‬الذات‭ ‬المكتسبة‭ ‬وتعرية‭ ‬الدوافع‭ ‬الإنسانية‭ ‬بكل‭ ‬جلاء‭ ‬وصدق،‭ ‬فهو‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬فلسفته‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬للسعادة‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬الألم‭ ‬والمعاناة‭ ‬والعذاب‭ ‬الذي‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬رغم‭ ‬كون‭ ‬فلسفة‭ ‬نيتشه‭ ‬فلسفة‭ ‬مشوّشة‭ ‬كثيرًا‭ ‬ويصعب‭ ‬استيعابها‭ ‬وتلقيها‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬وسلس،‭ ‬لكن‭ ‬تبرز‭ ‬نقاط‭ ‬واضحة‭ ‬جداً‭ ‬ومعالم‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬الفلم‭ ‬والفلسفة،‭ ‬منها‭: ‬معارضة‭ ‬نيتشه‭ ‬للثيمة‭ ‬الشعبية‭-‬المسيحية‭ ‬للبطل‭ ‬المرتكزة‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬الناس‭ ‬والتي‭ ‬تراه‭ ‬الشخص‭ ‬المنتصر‭ ‬السامي‭ ‬بانتصاراته‭ ‬إلى‭ ‬أوج‭ ‬المجد،‭ ‬فهذا‭ ‬ما‭ ‬يعارضها‭ ‬نيتشه‭ ‬في‭ ‬نظرته‭ ‬فيراه‭ ‬في‭ ‬فقدان‭ ‬البطل‭ ‬لذاته‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬جمعي‭ ‬يمر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجربة‭ ‬خاصة‭ ‬تدخله‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬النشوانية‭-‬الفوضوية‭ ‬المرحة‭ ‬والضاحكة‭ ‬لتحوّله‭ ‬إلى‭ ‬راقص

ﺣﺘﻰ‭ ‬ﻳﻮﻟﺪ‭ ‬ﻣﻨﻚ‭ ‬ذﻟﻚ‭ ‬النجم ‬الساطع، لابد أن تمتلئ روحك بالفوضى.

فريدريش نيتشه

بدايةً في كسر المنظومة الأخلاقية المسيحية، والتي كان يعارضها بشدّة ويعاكسها مباشرة، خاصة في تلك الوصايا الزرادشتيه التي نشرها في كتابه هكذا تكلّم زرادشت، فهو يرى تحقيق الذات في أن يمر العقل بتحوّلات ثلاث؛ وقد صوّرها على أنها تبدأ بمرحلة الجَمَل ومن ثم الأسد ثم يتحوّل إلى الطفل، معبّرًا بمرحلة الجمل على العقل الذي يحمل ثقلًا من الأفكار والموروثات التي اكتسبها مسبقًا مأخوذة على محمل الجد جاعلةً إرادته أسيرة لهذا الحِمل، حتى إذا عارضته الوِحدة تحوّل إلى الأسد الباحث عن حريته ومساحته من الإرادة ليصرخ (لا) في وجه كل قضية تقول له (ينبغي عليك) ويوسع مملكته الخاصة، فتبدأ إرادته بالظهور وتأخذ مساحتها في حياته، ويُبدِع قِيمه من جديد من خلال حرّيته هذه، لكن ينقصها ما يميّز [الطفل] من النسيان والبراءة حيث يعيد كل شيء بانبهار أوّلي وتجريب دائم ويرجع للابتكار من جديد، دون أن يشعره هذا بأي حِمل ومسؤولية جادّة [١].

وصول الإنسان إلى مرحلة تحقيق الذات هذه يجعله وفق نيتشه شخصية متوحّدة، تمارس إرادتها من ذاتها بعيدةً عن تسلط المفهوم الجمعي والأفكار والأخلاقيات المربوطة بالدين أو القانون، لذلك فهو يجد هذه الشخصية تعيش الغُربة والوحدة القاسية والمؤلمة، وهذا الشعور الذي يصفه بكونه "نجم يقذف به هكذا في فضاءٍ خلاءٍ وفي الوهج الجليدي للوحدة" [٢].

وضريبة هذه الوحدة تكمن في مقولته الغريبة: "هناك أحاسيس تريد قتل المتوحّد!؛ وإذا ما لم تفلح في ذلك فإنه سيكون عليها هي إذن أن تموت! هل أنت قادر على أن تكون قاتلًا؟، هل تعرف كلمة (احتقار) يا أخي؟ وعذاب عدالتك في إنصاف أولئك الذين يحتقرونك؟[٣].

فهو يعيد تشكيل المنظومة الأخلاقية معارضًا بذلك الوصايا المسيحية في المغفرة والتجاوز لكل من أساء إليك، فيرى أن المتوحّد لابد أن يقابل الظلم الواقع عليه بظلم مشابه له مباشرة وأن يقتص منه في حياته، وهذا ما يولد قوّة مخيفة للمتوحّد وقاتلًا وحشيًّا لا يهاب شيء فتجد نيتشه يعطف قوله بنبرة تهديدية للمجتمع من خطر هذا المتوحّد معبّرًا عن ذاته الخاصّة: "احذروا من إهانة المتوحّد! لكن إذا ما فعلتم ذلك، فلتقتلوه بعدها إذن!" [٤].

في مفهوم الخير والشر لا يفصل نيتشه بينهما بل هذا ما يعاديه تمامًا ويعادي كل شيء يتحول فيه الحديث إلى (إما-أو): الخير والشر، القداسة والشيطنة، السمو والانحطاط، الألم واللذة ....إلخ

فالسعادة في حياة الفرد ليس مطلبًا يفصل فيه بين المُثل والواقع، بل إن هذا التقسيم الإثنيني هو ما جعل الانحطاط في أفكار الناس، الحقيقة في السعادة مزيج متلاحم في التعايش بين العناصر المتنافرة هذه -والتي هي ليست متنافرة بالأساس-، ومن هنا يكون دوافع الشخص نحو الشيء بعيدةً تمامًا عن مفهوم النُبل والمثل، وهذا ما يجعل من الخير مجرد تسمية تفصل المنفعة وقناعًا يخفي الدافع، ‏فحقيقة القدّيس مهرّج لأفكاره من أجل أن يبيع الضحكة الأخروية، هي ذاتها قناع المهرّج تمامًا.

حين قال نيتشه: ‏"إني أفضّل أن يعتبرني الناس مهرّجاً على أن يعتبروني قديساً، و من يدري، لعلي بالفعل مهرّج".[٥] كان يشير بالتمام إلى مفهوم واضحٍ وصرخة عالية لبيان أن ‏الانحطاط -الذي نسمّيه- هو السمو، ولن يتحقق سمو أحد ولا سعادته قبل أن تغيب ذاته في ما تلقاه من لذّة وألم وتعيش معها نشوة السعادة، وحين تقضي على المعيار الأخلاقي أو ما نسمّيه بـ(تأنيب الضمير) فلا تتنكّر لعمل قمت به ولا يشعرك بـ«الشؤم» ولا بـ«الذنب».

لعب الجوكر في الفلم دورًا مجسدًا لهذه الأفكار، ومستعرضًا نتائجها بحبكة درامية، وكأن الجوكر دمية في يد نيتشه، وقد أثار الفلم الكثير كإثارة نيتشه لعودة الأشياء إلى أصولها وجذورها، واستطاع الفلم أن يكتنز الكثير من الأمور التي تفصح عن النفس الإنسانية ودوافعها.

لربما نجد ذلك في ما تبعه من أصداء واحتفاء، وما انتج عنه من ازدياد في التعبير الفني، هو ذاته ما ضمّنه نيتشه في كتابه مولد التراجيديا، متحدّثًا فيه عن نشأة الفن والمسرح والموسيقي من رحم المأساة والمعاناة، فيعود فيه إلى عمق التراث الأثيني والميثيلوجيا اليونانية ليستحضر منها فكرة تلخّص الفكرة، وصاغها في صراع الحياة بين العنصرين: (الأبولونية - الدينسيوسية)

و‏يرى نيتشه أن الحياة الإنسانية هي مزيج متجانس بين الأبولونية والدينيسيوسية فبقيام أحدهم يتم تدمير الأخير وهذه الحالة نمارسها بشكل يومي، متمثلة في قيام الإنسان في الصباح من نومه لمزاولة وظيفته وهو وجه أبولوني في نظامه الصارم، و‏في المقابل يعمد الإنسان إلى كسر النظام والخروج عنه ومعيشة الحرية الكاملة والحالة الطفولية التي تظهر في العديد من الأشكال منها الجنس والرقص والطقوس وغيرها..  وهو الوجه الدينيسيوسي في فوضاه.

وبولادة الدينسيوسية يظهر الفن ويتجلّى في جميع صوره.

‏الجوكر في العمل الدرامي شخصية أرادت أن تعيش حياة طبيعية بروتينها ونظامها الصارم، لكن قساوة هذا النظام وعنجهيته المفرطة معه جعلته يدمّر الوجه الأبولوني ويولد في مأساته الوجه الدينيسيوسي بالفوضى بشكلها اللاإرادي المتمثّل بالضّحك، والرقص، والقتل العشوائي والجنس...إلخ

ولأنَّ الفوضى معديه، فقد ظهرت عدوى فوضى الجوكر للأفراد بإعطائهم القوّة المطلوبة على أن يطلق في وجه الأبولونية(الدينية/السياسية/الفكرية .... الخ) في حياتهم الرصاصة، ليتحرر من النظام فيبزغ دينيسيوس فيه ويولد النجم الراقص.

Join