سلفادور دالي (1904-1989) الفنان الإسباني الشهير بغرابة أطواره وتصرفاته اللامسؤولة،المدلل والمضطرب نفسيًّا والعاشق لكل ما هو غير مألوف، يعد من أهم فناني القرن العشرين، وهو أحد أعلام المدرسة السريالية، مجنون حد اللامعقول، متميّزٌ بأعماله الفنية المتنوعة في كل مجال، خاضعًا المشاهدين لموضوعاته وتشكيلاته بغرابتها في كل مرّة، حتى جعل جنونه عبقرية فريدة، وإبداعه مولود في فوضاه، وفي نرجسيتيه المتوحّدة، كان تجسيدًا لجنون العظمة إذا أردنا لها تشخيصًا في فرد، فسيكون هو بدون تردد.

كثيرة هي الدراسات والمقالات التي تناولت حياة دالي الغريبة والشبقة، ووحشيته واضطراباته التي لازمته منذ الطفولة، وكثيرة هي الدراسات التي أخذت عبقريته الفنية محل الدراسة والنقد، فنقدت مفاهيم الجمال الفني والوحدة الموضوعية والمعنى وغيرها، والدراسات التي أخذت تشكل تاريخ الحركات الفنية والسياسية وتلازمها مع الحركات الفكرية من رواد الفكر العلماء والفلاسفة، أمثال سيغموند فرويد وشوبنهاور ونيتشه وهيغل وديكارت وكذلك فلسفة كارل ماركس الشيوعية ومناهضتها للرأسمالية، فحياة دالي كانت فترة التقلبات الاقتصادية والسياسية ونشوء القفزات العلمية والفنية وبدءًا لعصر كسر القيود والقوانين والأفكار الرتيبة، لحظات عمره كانت في انفجار الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية.

كانت أوروبا ما بعد الحرب تأكل باستمرار مذاق البراز، من الآن فصاعدًا ستكون الحرب مؤدية للمعاناة والانتحار الجماعي وللوهم الصبياني القائم على الإلغاء الثوري لجميع القيود

كان يركز دالي بوعيه على العالم الهامشي الذي كان يجب خلقه لنتمكن من أن نخرج أنفسنا من المسخ الجسدي الذي غيرته حياة المدنية في حياة الناس النقية والبسيطة، وهذا لا يكون إلا بالتخلص من كل الانحرافات والذكريات المتطفلة، فلوحاته تعيد خلق حرية الحياة الطرية والرغبة في فهم الأشياء بشكل أفضل من خلال القلق الدائم فيها وهو الدافع إلى أن تجتاز عقبات التعقيد لفهم اللوحة ومعناها، فاللوحات تشجّعنا لأن نبدي عقلية تشبه القوارض، وأغرب ما فيها من العبث هي لحظة استسلامنا للوحة فاقدين معناها الحقيقي لنخلق منها معنى أو أن نوصفها بأنها فاقدة المعنى، هنا يسخر دالي من المشاهد الذي لا يذعن إلى حقيقة أنه لا يفهم، بدلًا من أن يتفلسف، و دالي يهاجم الجميع بعنفوان العدوانية الواضحة والصارخة في لوحاته، هو لا يناقش الأمور المتعلقة بلوحاته وتفاصيلها، ولا ياخذ الأمور على محمل الجد، ويستغرق وقتا طويلا لأن يفهم ما تقوله له.

حينما نتحدث عن دالي فلابد أن لا ننسى بأنه رسَّامٌ ذو موهبة استثنائية في شدّة دقة التفاصيل في أعماله، مما يجعله أكثر الفنانين اجتهادًا في إتمام اللوحة، وأكثرهم حبًّا للاستعراض، لذلك فهو وإن كان غريبًا مجنونًا إلا أن موهبته هذه أعطته أهمية وتقدّمًا في مصف أصحاب المواهب.

ولعل أكثر ما يشدّ الناس لغرابة لوحاته، أن حياته غريبة كغرابتها، مجنونة كجنونها، غير معقولة مثيل ما يصنعه في حياته الشخصية.

العدم الذي يبدأ به الفنان من الفراغ هو العدم الذي يلف كل شيء في العالم، يداعبه ويخنقه في نفس الوقت"

كل ما نريد أن نقوله عن دالي هو أنّنا نقف أمام الرجل الذي يمثل الاعتداء الصريح على العقلانية والاحترام، على القانون والمسؤولية، بل حتى على الحياة نفسها، وهذا الشيء هو ما تشحنه اللوحات التي رسمها في تسميم المخيّلة وتخدير الحواس، هو يطرح ذاته بكل ما فيها من جبروت نرجسيته وتداعيات اللاوعي عنده بلا قيود أو حدود، مما يجعل مثل هذا الشخص غريبًا بين من حوله، فالناس الطبيعيين لا يحبون أن يخالطوا أمثاله. وهذا ما يجعل المعادلة التي يصنعها دالي لمعجبينه صعبة، فهو المجسد للوحشية والفحش في أقصى درجاتها من التعقيد والتفاصيل المبهرة، هو الفنان الأوحد رغم حقارته وجنونه وأفعاله الصبيانية.
يفتقد
دالي إلى التشخيص الواضح لرؤيته وهدفه، ولعل هذا الشيء هو أكبر مشتركاته مع (البروفيسور)، فكل تبرير يوضع للوحاته هي في الحقيقة ليست سوى تعاطفًا مع اللوحة، ودالي يؤكد ذلك في عدّة مناسبات ولقاءات أنه لا يرتجي المعنى وليس لفنّه هدف ورسالة. 

وتبقى أسئلتنا عن دالي يلفها الغموض في فهمه، وفهم ما يريد، وفهم ما إذا كان ما صنعه ذكاء وعبقرية أم هو جنون ومرض محض.

في المشهد الأول لظهور القناع جرى الحوار الذي يحدد فكرة اختياره الغريب.

كان ريو أول من سأل عن من اختار هذه الأقنعة فهي ليست مخيفة وأن جميع الأفلام تختار للسارقين أقنعة مخيفة مثل أقنعة الزومبي والهياكل العظمية..
يشهر أحدهم المسدس وهو يرتدي القناع ويقول: مع المسدس فإن المجنون أكثر إثارة للخوف من الهياكل العظمية.

في حوار آخر يبيّن دنفر جهله بصاحب هذا الوجه، والذي يعرّفه له أبوه بأنه رسام أسبابي يرسم بشكل ممتاز، لذلك لم يستطع أن يفهم وجه التخويف الذي يثيره قناع دالي، فطرح دنفر فكرة التخويف عبر أقنعة ميكي ماوس لأن الطفولة والأسلحة إذا اجتمعا كانت حالة جنونية مخيفة.


جهل دنفر بالفنان جعله لا يفقه ما في قناع دالي من التخويف الذي يتجاوز فكرته في أقنعة ميكي ماوس، فدالي مخيف أكثر إذا عرف أنه بالفعل فنان دقيق وفي نفس الوقت طفولي في تصرفاته ومجنون في سلوكه ومنحرف أيضًا.

تمتاز لوحات سلفادور دالي بالتخطيط المعقّد جدًا والتفاصيل الكثيرة والزوايا المخفية، والرموز مما يجعلها غريبة الشكل ممتلئة بالدلالات غير الواضحة مما يضعك في مواجهة غامضة مع المعنى يصعب عليك الولوج لها، وبناء قاعدة لفهمها وشرحها والتعاطي معها، لا يمكنك إلا أن تقف مدهوشًا من اللاقانون الذي يخلقه في اللوحة.

دالي تجسّد واضح للمتمرّد على أبيه الصارم، وعلى نيتشه المعلّّم وعلى فرويد الملهم وعلى الحركة السريالية وعلى النظام الرأسمالي، وعلى كل شيء..

كل من يتمرد على السلطة الأبوية، ويهزمها فهو بطل

سيغموند فرويد
Join