أمام ما يعتري مجتمعاتنا من وباء التصحّر الفكري، نقف وقفة رجل البادية عند أطلال ذاكرتها القديمة، ونتلمس بعض زواياها المخبأة لنكشف أسرارًا دفنوها في عتبات دورها، وأودعوا أصواتهم في آبارها وعيونها..
هنا حيث الهضاب المليئة بالرمم والآثار المخلخلة من الحجارة والفخّار، والمحتجزة للألوف من الأرواح، يتحرر منها صوت يجذب مستمعه إلى فجوة زمنية تتداخل فيها العوالم والأمم في أزمان متعددة إلى مكان واحد.
هنا حيث حضارة شيّدت سجون مرضى الأرواح والمسحورين أسفل طبقات عالمها، دافنةً أختامًا كقرابين .. طالبةً البركة والرحمة أن تصبّ صبًّا على هذه الأرض لتصير أرض البركة - دلمون - أرض الخلود ..
أنا أقف بجوار قبورها في قرية عالي .. بعد مرور ٤٠ قرنًا من زمانها.. أصيخ بسمعي إلى تربتها لاستمع إلى روحها التي ما يزال يتردد صداها عبر العصور والتاريخ رغم انقطاع الأجيال.
أعيد قراءة (حرق يا صفر) من زاوية إنثربولوجية مصبوغةً بالتجربة الروحية للمنطقة..
في مجتمع البحرين (الشيعة تحديدًا) وكذلك في مناطق قريبة منها يحتفلون بما يسمى بـ (حرق صفر)، قاصدين خروج شهر صفر ثاني الأشهر القمرية في التقويم الهجري، والذي يرتبط أولًا بالقمر، حيث يعلن الهلال ختام شهر صفر ودخول شهر ربيع الأول ويرتبط ثانيًا بالسنة الهِجرية والتي تستدعي في ذاكرة المجتمع الأحداث الدينية والارتباط الديني.
تقوم الاحتفاليات عند نساء القرى بكسر الفخار وإضرام النار والقفز عليها وتصاحبها صيحات وأناشيد تتوعد صفر بالحرق وتفرح بخروجه.
ويالها من مصادفة عجيبة أن أقف في أقدم أرض اشتهرت بصناعة الفخّار ولازالت، لأقرأ طقس كسر الفخار.
طلع صفر جانا ربيع ... يا محمد يا شفيع
طلع صفر بشرّته وشروره ... جانه ربيع بفرحته وسروره
يابو صفيروه، صفر ... طلع من لحضار، وطفر
طلع صفر حندوبتي سالمة .. وهذي لعديوة في القبر نايمة
حرقناك ياصفر … يابو المصايب والكدر
حرقناك ياصفر … على اطوير واعتفر
حرقناك ياصفر … على ديك واعتفر
حرقناك ياصفر … على اعريس واحترق
حرقناك ياصفر … يابو المصايب والكدرطلع صفر واميمتي سالمه سالمه
عدوة أمي في القبر نايمه نايمهحرقناك ياصفر يابو المصايب والكدر
طلع صفر حندوبتي سالمة
وهذي لعديوة في القبر نايمة
ولكل قرية أو مجموعة مراسيم خاصة إضافية، فبعضهم يذهبون إلى العيون للاغتسال نازعين الثياب السوداء -التي التزموا بلبسها طيلة الشهرين- مستبدليها باللباس الملوّن الجديد.
والآخر -كما في تاروت- يقتطفون أوراق نباتٍ تسمّى (غسّال إيد الزهرا) -ويبدو أنها هي ذاتها النبتة المعروفة بـ الساهك أو الناردين- أو غيرها ..
وفي الحقيقة بحثت كثيرًا في مواصفات النبتة هذه وحاولت أن أجد صورًا لها، وقد أضاف أحد الأخوة هذه النبتة مشيراً لها باسم (غسّال إيد الزهرا)
في قراءنا لهذه الاحتفاليات من جانب إنثربولوجي نرى أنها تقترب جدًا لما يسمّى بـ (طقس العبور).
وطقس العبور هو طقس من الطقوس التي تجري تعبيرًا اجتماعيًّا لتغيّر الحالة وتبدلها وانتقالها من مرحلة إلى مرحلة أخرى، عادة ما يتحقق طقس العبور من خلال طقوس معينة واحتفاليات خاصة بالمناسبة، تكثر عند الولادات وفي حالة البلوغ، والموت، وتكثر في هذه المناطق هذه الطقوس، فنجد طقوس خاصة للعروس قبل دخولها إلى بيت الزوجية، وكذلك للوالدة التي وضعت حملها،.. والكثير الكثير... ولعلّنا نسلط الضوء على بعضها في مقالات أخرى.
وفي صورة (حرق صفر) فإنها تمثّل خروج المجتمع من شهر صفر وانتقاله إلى مرحلة أخرى وهو شهر ربيع، وفي ذلك أبعاد كثيرة يمكن الغور فيها..
فـ شهر صفر؛ مرتبطٌ في الذاكرة الجمعية للمجتمع بـ النحس والحزن والمصائب، ولهذه الذاكرة روافدها الكثيرة، منها الدينية والتاريخية، فالدينية بتوفر جملةً من النصوص والأحاديث الدينية التي تتحدث عن نحوسة شهر صفر-رغم الجدل حولها بين ثبوتها وعدمها-، أما التاريخية فما جرى في الصدر الأول للإسلام لأحداث حوت الظلم والجور والمصائب على رسول الله وآله، أهمها أولاً: مقتل الحسين وسبي نسائه إلى الشام وثانيًا: شهادة رسول الله في أواخر الشهر، والهجوم على دار بضعته الزهراء عليها السلام
فخروج شهر صفر هو خروج شهر الأحزان وتمكّن الظالم، ودخول شهر ربيع هو دخول في الأفراح والانتقام من الظالم وانتصار المظلومين.
وهنا في عنوان الانتقام من الظالم وانتصار المظلومين وقفة..
ففي أولًا: كان (حرق صفر) في قديم الأزمان وخاصة في مناطق مثل (القطيف) يتبعه مجلسٌ للنساء يعقد باسم (خَبر السَّفاح)، ويقصد بالسّفاح تلك الشخصية التاريخية التي أخذت بثأر قتلة الحسين وانتقمت منهم وتدعى: المختار بن يوسف الثقفي، والذي خرج في الكوفة، فينقلون فيه وقائع انتقامه منهم، حتى إذا وصلوا إلى ذكر سجنه لهم في قصر كبير ومن ثم هَدَم القصر عليهم، تقوم نساء القرية بكسر الفخّار وهم يرددون:
عليهم القصر طاح ... واتشمِّتوا يحضّار
جَفْخُوا بأياديكم .. وخلّوا اِلجدارالتجفيخ في اللّهجة بمعنى التصفيق
والشماتة هنا مفردة تدل على أن خبر قتل القتلة والظالمين سبب لهذا الاحتفال، فهو يضفي كسر الفخّار رمزيتها النفسية.
أما ثانيًا ففي شهر ربيع ينقلون حدث انتقام آخر لأكبر الأعداء، وعادةً ما يصفون هذا العدو بصفات الأنثى، وهو ما يجعل الأناشيد تفيض بذكر العدوّة والعجوزة وغيرها من الألفاظ..،
وهي أيضًا عمل يضيف لاحتقاره والتشمت به رمزيتها.
والكسر مرتبط أيضًا بالشّر وهذا ما نتلمسه كهاجس واعتقاد جمعي عند أهل القرى تحديدًا فيقولون عند انكسار فخّار أو خزف أو زجاج أو أية آنية منزلية (غدا الشر) - (انكسر الشر) - (دفعة بلا)... إلى آخرها من التعبيرات المشابهة، ولعل هناك ارتباطًا لما جرى من ظلم متعلّق بالـ(كسر) فيجري الكسر تعبيرًا للانتقام، تمامًا كما الحرق، فهو أيضًا تعبير عن التدمير، ويرجع ارتباطه بإضرام النار في البيوت، وهي صنيعة الظالمين، فهذه التعابير ما هي إلا نوع من الرد بالمثل، وبشكلٍ رمزي..
لأن هذه الشعوب والمجتمعات المغلقة والصغيرة تعيش هواجس (الخوف) من كل ما يهدد أمنها، وتشعر بالقلق اتجاه أي أمر سعى في تدميرها، سواء كانت على شكل ظواهر طبيعية أو ذكرى تاريخية، فإن التعبير الذي تصيغه تعبيرًا خاصًا بها تضفيه على كل عمل لتعيد خلق التوازن النفسي..
وهي تجربة روحيّة عميقة، متوغلة في التاريخ البشري على اختلاف مشاربه واعتقاداته، ومواضيه وتاريخه، فـ(العدو) يتحول إلى شيء يتم تحطيمه وحرقه والانتقام منه، و(الخوف) يتحوّل إلى احتفال وشماتة بنهاية مسبب الخوف أو موته.