النور في تصاوير المعصومين
دراسة سيميائية
اعتدنا تصوير تشابيه أئمة أهل البيت عليهم السلام مشمولة بهالة من نور وإضاءة تغيب فيها ملامح الوجه، وفي هذه الأسطر محاولة لتحليل ما تدل عليه هذه الطريقة في التصوير
كمقدمة يجدر الإشارة إلى الثنائيات التطابقية لتحليل هذه الحالة، حيث نقوم بجمع الصور الرمزية وتجميعها على شكل مجموعتين ثنائية، تشتمل على جميع التكثرات الصورية والرمزية لها، وإحدى وأهم هذه الثنائيات التطابقية تظهر عبر مجموعتين: (رموز نهارية) في قبال (رموز ليلية).
الشمس وهو العنصر الأهم والأول من تمظهرات الرموز النهارية والتي تعبّر بذاتها عن الارتفاع والنور، وتتصور بالشعاع واللون الذهبي، هو في جميع الثقافات الأقنوم الأمثل لتمثيل القوى السماوية، قوة الخير (النهارية) في قبال قوة الشر (الليلية).
وما يمثله اللون الذهبي هو تمثيل ذات طابع روحاني بحت.
ولأن الشمس تكشف عن نفسها عبر الهالة النورية فإن هذا التكثّف المرموز بالهالة يلعب دوراً دينياً في مستويات كثيرة.
في الدين؛ فإنه لا يمكن عزل النور التعبير الأول عن الكلمة الهادية، وعن الخير، وعن القديس، وعن الله.. ولا نحتاج إلى الإطناب الكثير، ففي كل نص مقدّس سواءً كان سماوياً أو غير سماوي، فإنك ستجد النور ملتصقًا تماماً مع كل تمظهرات القوة الدينية الإيجابية، فكثير من الشعوب القديمة كانت تعد الشمس -المصدر الأول للنور: عين الإله.
وعلى صعيد الفكر الإنساني اكتسبت الهالة النورية في الثقافة الشرقية القائمة على طقوس اليوغا والتأمل أهميتها، ويمكّننا من ربطها بأبرز مقابض الفكر الإنساني كالمثالية الأفلاطونية على صعيد الفلسفة، والنظرية المرآتية على صعيد الفيزياء وعلوم المادة، ومفادها وجود تطابقات خارجية-داخلية، فمنابع الطاقة الخارجية كضوء الشمس وضوء القمر والنجوم والطاقة الكهربائية والأخرى المغناطيسية لها مواضعها المثيلة والمقابلة في جسد الإنسان وهذا ما دعى الفلسفات الشرقية القديمة كالهندوسية في الشاكيرا والكبالا اليهودية في شجرة الحياة وغيرها من التيارات إلى رسم خريطة الطاقة ومنابعها ومراكزها في جسدالإنسان، ونجد الرابط المشترك في أهمية موضع الجبهة والرأس أعلى الوجه كونها المركز المتعامد مع السماء والإلهام الإلهي والفكرة.
في السابق كان يُنظر إلى العلاقة بين مقابض الطاقة في الخارج ومثيلاتها في جسد الإنسان كعلاقة تبادلية تتداول فيها الطاقة بصيغة تبادلية بين الخارج والداخل، قبل أن تتغير زاوية النظر إلى جدلية العالم-الإنسان، إلى كيان واحد تتداخل فيها الذاتين في صيغة جامعة، وهنا تبزغ القراءة الأخرى للمثالية الأفلاطونية.
فإن كان كل شيء هو في أصله لا يعدو كونه فكرة، والأفكار تدور في فلك العقل، إذن لا نفع ولا حقيقة لوجود الخارج سوى المقدار الكافي للتفاعلات الداخلية للإنسان.
ومن هنا فإن ما نجده من التصاق كبير ما بين النور والكلمة -الفكرة بكونها هادية- يعود في الأصل إلى جذور فلسفية قديمة جداً نجدها ممتدة إلى ما استخدم منها أفلاطون في بيان الوجه الآخر لجدلية الكلام-البرهان.
ذات الأمر فيما يتعلق بـ النصوص الدينية السماوية فاطلاع سريع على انجيل يوحنا في إصحاحاته الخمس الأولى ستجد ذات الالتحام بين النور والكلمة والشخص الهادي.
أما القرآن الكريم، فإن التمثيل الأكثر صراحةً في التعبير القرآني عن الله هو (النور) في قوله تعالى
ويعد رمز النور في الثقافة الدينية الشيعية أول شيء ظهر للوجود (أول ما خلق الله نور نبيّك يا جابر)، والنور هو معدن خلق الملائكة، الأيادي الإلهية المدبّرة في الكون.
ولأن النور بطبيعته انتشاريه في كل ما حوله ويضفي الإبصار على الأشياء والرؤية فإن مصدر النور هو كذلك تعبيراً عن من (يرى كل شيء).
عودةً إلى الهالة النورية فإنه يمكن النظر إليها أيضاً من زاوية التحليل النفسي، فغالباً ما تظهر صورة الهالة خلال تجارب أحلام اليقظة، ووجه الشخصيات المتخيلة يتحول خلال صعودها الخيالي، إلى (هالة من نور ساطع)، في نفس الوقت يكون الانطباع الذي يأخذه المريض انطباع النظرة، النظرة التي تمثل -برأي ديزوي- العلائية النفسية التي يسميها فرويد (الأنا العليا) أي نظرة فاحصة للضمير الأخلاقي.
هذا الإنزلاق من النور، من الهالة النورانية إلى النظر، تبدو لنا طبيعياً جداً، لأنه من الطبيعي أن تكون العين، أداة البصر، مرتبطة بمادة الإبصار أي بالنور، فتمثل العين والإبصار رمزاُ للرقابة (الأنا العليا) وترتبط بالعلائية، وهذا ما يتم ملاحظته من خلال قراءة الأساطير العالمية والتحليل النفسي لها، ومن خلال ذلك فإنه يمكن النظر إليها بكونها (عقدة المشاهدة) والتي تجمع الرؤية والمعرفة في داخل التقييم الحاد للأنا العليا والتي تذكرنا بـ(التأمل الملكي) لـ باشلار.
فالأنا العليا هي قبل كل شيء عين الأب، ومن بعدها عين الملك، ثم عين الله، ذلك بسبب الرابط القوي الذي يوجده التحليل النفسي بين الأب والسلطة السياسية والسلطة الأخلاقية.
وخلاصة هذا القول: حين يتم تغييب رؤية ملامح عضو ما فإن هذا العضو يتحوّل بدوره إلى الأنموذج-المثال بمعناه الأفلاطوني، ورؤية ملامح الوجه المغيّبة بهالة من النور يتعاظم فيها أثر احتكام المُثل الأخلاقية -الأنا العليا-، لانه بذلك يعبّر عن وضوح وعفوية واستقامة النور التي تعطي الوضوح والعفوية والاستقامة الأخلاقية السامية.
نجد أن هناك ارتباطًا قويًّا جداً بين جميع أسماء أهل البيت عليهم السلام وكذلك ألقابهم بما يحتوي فيه من معانٍ للنور والعلو والتطهير.