الرحلة الأدبية

هذه القصاصات المتفرّقة، لا تعبّر عن منهجية محددة، ولا اشتغال حقيقي، بل هي محاولات لاقتناص أدوات يسيرة تعين القارئ الراغب في الانفتاح على النص الإبداعي الأدبي، واستشعار الجماليات فيه.

ما تقرأه في الرحلة الأدبية ليس سوى تسجيلات لملاحظات وقراءات من هنا وهناك، ولثقتي بأن قارئ هذه الأسطر لا ينظر إلى الرحلة هذه على أن يجد الفائدة في ذاتها بل ما تشكّل له من تداعيات فكرية تأملية، يساهم هو بنفسه في تطويرها وتعميقها أكثر .. ولهذا السبب فقط هو ما يدفعني للمساهمة في نشرها، وأيضاً لإيماني بأن كل تسجيل للحالات التأملية هو حافزٌ للذهن نحو الاستمرار بالكتابة، والتأمل أكثر، والملاحظة بشكل أعمق، فالغاطس لا يسعه أن يقف في المنتصف، لا يصل إلى القاع ليتلقط ما يستطع من لآلئ أو يرجع ليأخذ نَفساً جديداً ليعيد الكرّة من جديد، ولذلك فإني على يقينٍ بأنها لن تقف عند حدود ما سجلته هنا، بل ستجد مسارها في كتابات أخرى ..
ولذلك فأنوّه، أنك لن تجد وحدة موضوعية صارمة بين المقالات التالية، رغم محاولتي بجعلها متسلسلة.


أنواع الشعر برؤية عزرا باوند

كثيرة هي التقسيمات التي تتطرق إلى أنواع الشعر، وتدرسه من عدّة جهات، لكن سجلتُ ما تناوله عزرا باوند لأنه استطاع أن يمثّلها برؤية جديدة لاشتغاله الواسع في الأدب المقارن.

(عزرا باوند) شاعر امريكي صاحب مشروع ترجم الشعر الشرقي بكل أنواعه ونقله من الشرق إلى الغرب، وبهذا الإطلاع الواسع على الأدب المقارن قسّم الشعر إلى ثلاث أقسام:



  1. الـ(لوجوبيا) وهو شعر الفكرة والتعبير الدقيق أو ما نسميه بـ النظم، وهو ما يكون على شكل الشعر، إلا أن غرضه غير كونه شعراً، وأقرب مثال عندنا هو ما نطلق عليه اسم المنظومات التي غايتها التعليم كمثل ألفية ابن مالك في تعليم النحو وغيرها، وقد يلتحق بهذا القسم أيضاً الشعر الديني والحِكمي والوصايا الأخلاقية التي تتخذ أساليب المباشرة في التعبير.

  2. ٢. الـ(فانوبيا) وهو شعر الصورة المرئية، والقريب جداً في مفهومها عندنا من طريقة الشعر الكلاسيكي في التقاط صورة وتعميق ذات الصورة بالتقريب للتفاصيل أكثر أو تحريكها بشكل بسيط جداً لا تتعب المخيّلة، فتصوّر المشهد وكأنه مشهداً سينمائياً بأبعاد وتفاصيل دقيقة.

  3. ٣. الـ(ميلوبيا) وهذا النوع يعني بأن تكون الكلمات في الشعر تحمل فوق دلالتها اللفظية طاقة موسيقية هائلة ومتفجّرة بحيث تتعاضد فيه دلالة الكلمة وموسيقية الكلمة في إيصال روح الصورة إلى غايتها في التأثير بالنفس والعقل.
    هذا القسم الثالث الذي يتأرجح بين الموسيقى والمعنى، يقف على حافة الوعي، فلا هو بالمعنى الدقيق الذي يصل إلى الذهن بشكل مباشر دون تأثير بالنفس، ولا هو بالموسيقى الممسكة بتلابيب الشعور العبثي دون أيّة غاية.
    وهو أسمى أنواع الشعر عند عزرا باوند.


توضيح الأقسام التي تطرّق لها عزرا باوند فإنني أقدم بشكل متواضع ما أجده يمثّل الأنواع الثلاث كما سيأتي
النوع الأول: (لوجوبيا)
مثال(١):
ألفية ابن مالك في القواعد النحوية:-

كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقم
واسم وفعل ثم حرفٌ الكلم

واحده كلمــةٌ و القول عم
و كلمــــة بها كلام قد يؤم

بالجــر والتنوين و النــــدا وأل
ومسند للاسم تمييزٌ حصل

مثال(٢):
قول الشافعي:

أخي لن تنال العلم إلا بستة
سأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص واجتهاد و بلغـة
وصحبة أستاذ وطول زمـان

يلاحظ في هذا النوع المباشرة التامة، فغرض الشعر ليس بث الشعور، بل الاستفادة من بنائه العروضي لغرض تعليمي أو حِكمي، لذلك فهو يخرج من اسم الشعر إلى اسم النَّظم عند النقّاد.

النوع الثاني: (فانوبيا)

مثال (١) :
قصيدة البردة لكعب بن زهير:-

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
جلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه منهل بالراح معلول
شجت بذي شبم من ماء محنية
صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه
من صوب غادية بيض يعاليل

مثال (٢) :
قول السهروردي :
رَقّ الزُّجاجُ وَرَقَّت الخَمرُ
فَتشابَها فَتَشاكل الأَمرُ.

فَكَأَنَّها خَمرٌ وَلا قَدح،
وَكَأَنَّها قَدحٌ وَلا خَمرُ.

يلاحظ في هذا النوع طريقة تركيب الصورة الشعرية وكأنها لقطة عابرة رسمها الشاعر بدقة الفنان عارضاً صورته الذهنية بكل تفاصيلها الدقيقة لتحمل هذه التفاصيل ويشاركها المتلقي في ذهنه.

النوع الثالث: (ميلوبيا)
مثال (١) : بدر شاكر السياب في (صياح البط البرّي):
...
وعند الضحى وانسكاب السماء
على الطينِ والعشبةِ اليابسة،
يشقُّ إلينا غصون الهواء
صياحٌ ،
بكاءٌ،
نداء
يبشر شطآننا اليائسة.
بأنَّ المطر.
على مهمه الريح مدّ القلوع

نلاحظ في هذا النوع كيف أننا ونحن نقرأ الأبيات، يشدنا صوت الكلمة ونغمتها ويعيننا على تمثيلها في ذهننا فنستشعر معانيها ودلالتها برفقة موسيقيتها فتتعاضد كلها معاً لتصوّر في مخيّلتنا حالة شعرية تترنّح بين الطرب باللفظ والوعي بالصورة.

ملاحظة: كان من المفترض أن أضع مثالاً آخراً لكني وجدت المسألة صعبة جداً، فمن يستحضر مثالاً جيداً لأن يضاف فلا يبخل علينا به.


الفرق بين اللغة الشعرية واللغة غير الشعرية عند المدرسة الشكلانية

المدرسة الشكلية الروسية كانت أحد المذاهب المؤثرة في ميدان النقد الأدبي في روسيا في الفترة بين العام 1910 و1930 ، أحدثت ثورة في الساحة الأدبية

كتب عالم اللغويات الروسي، رومان جاكوبسون في كتاباته ذات التوجه نحو المدرسة الظاهراتية أو الشكلانية يشرح وجهة نظره في التفريق بين العمل الشعري والعمل غير الشعري عبر توازنٍ بين الانطباع الذاتي والمعيار الثابت.
فلا يمكن لأي متلقي للشعر أن يقصي الانطباع الذاتي الذي يجعله يتمازح مع النص الأدبي، وفي ذات الوقت لابد من احتكامٍ لمعيارٍ ثابتٍ مستقرٍ للتفريق بين النص الشعري من غيره، وحيث أن المدرسة الشكلانية هي أولى المدارس النقدية التي حاولت أن تقيم أسساً ثابتة الاحتكام للنص الأدبي وشكله، والذي ابتنيت عليها فيما بعد المدرسة البنيوية، فإنه في نظري من الجيد الولوج إلى ما تطرقوا له من التفريق بين اللغة الشعرية واللغة غير الشعرية.
يقول جاكوبسون -مختصراً ومتصرفاً بكلامه بما لا يخل فكرته- :
ومهما يكن من أمر تنوّع الأذواق واختلافها فإن الثابت المميز بين الشعر واللاشعر نذكره على سبيل المثال لا الحصر:
١. تمتاز اللغة اليومية(غير الشعرية) بأنها عفوية غير منمّقة في أكثرها، موجهة نحو غاية محددة، بينما اللغة الشعرية تتميز بالطابع المحسوس بأنواعه (الصوتي - اللفظي - الدلالي).
٢. اللغة الشعرية ترتكز على اللغة في جعلها الغاية والأولوية على حساب المعنى المعتاد، أي أنها تنحت اللغة كالرخام لصناعة تمثال، بدل أن تستخدم الرخام لغرضه المعتاد، بينما اللغة اليومية (غير الشعرية) لا ترتكز على اللغة إلا في غايتها المعتادة لإيصال والاتصال مع الآخر، فهي وسيلة وليست غاية.
٣. في اللغة الشعرية تقترب العلاقة بين الصوت والدلالة إلى درجة حميمية جداً، بينما لا يعتنى بهذه العلاقة في اللغة اليومية(غير الشعرية)
٤. الجملة اللغوية في اللغة اليومية (غير الشعرية) تمتاز بأنها صريحة سهلة البلوغ إلى المعنى، بينما في اللغة الشعرية الجملة اللغوية تبتعد عن الآلية العفوية، وتبتعد عن الواقع أو اللغة المألوفة، جاعلاً عملية الاتصال ووصول المعنى في آخر الامر.
بعبارة أخرى هناك تداعي ميكانيكي سريع في الجملة اللغوية اليومية غير الشعرية، بينما هذا التداعي يتباطأ في اللغة الشعرية. انتهى كلام جاكوبسون.
أقول: والتداعيات الميكانيكة في الجملة اللغوية تأتي على شكلين:
- عمودي كتداعيات الدلالة والمعاني المتكثرة للفظة
- أفقي كتداعي التزامن والحركة والأوصاف.
وقد نشرح هذا الشيء في حلقة منفصلة.
اضافة إلى ما ذكره جاكوبسون فإن اللغة اليومية غير الشعرية واقفة على الإيقاع الآلي المرتكز على الوقف التنفّسي. أي أنه كلما كان الكلام نثراً قلّة النبرة الغنائية وزاد الترابط الجاف، في حين كلما اقترب إلى الانتظام بالإيقاع والوزن والنظم فإنه يزداد قرب إلى اللغة الشعرية، وهنا نقترب من وضع حجر الأساس لمفهوم (الشعرية).


الشعرية

الشعرية نظرية علمية ونقدية وأدبية ومعرفية تهتم بقواعد الإبداع الأدبي والفني والجمالي.

يمكننا أن نُعرّف الشعرية -بشكلٍ مختصرٍ- في كونها عملية لبناء نظام في النص، ثم كسر هذا النظام وإقامة نظام آخر على انقاضه.
لذا فإنه من الطبيعي أننا نحتاجُ ابتداءً إلى نظامٍ نتكئ عليه معد بدقة لكسره.
ولتوضيح ذلك أكثر، فإن النظام العام للحديث اللغوي -كما ذكرنا ذلك في الرحلة السابقة- يصحب معه تداعيات ميكانيكية تلقائية، وقد وصفنا نوعيها بكونهما إما تداعيات أفقية، أو تداعيات عمودية.
وبمثالٍ قريبٍ بسيط، لو أردنا الحديث عن فصل الربيع مثلاً فإنه يمكن تقسيم التداعيات فيه كالتالي:
التداعيات الأفقية: بقية فصول السنة من صيفٍ وخريفٍ وربيع. والتي تمثّل متوازيات مع فصل الربيع.
التداعيات العمودية: هي ما يحتويه فصل الربيع من صفاتٍ كاخضرار الأرض، وطيب النسيم، ودفء الشمس، وعبق الورد، وجمال الطبيعة،... وكلها في صفات وأحوال الفصل، فهي تعمّق الرؤية إلى الداخل.
وللتقريب من زاوية الرموز الرقمية وتسهيل المطلب أكثر، فإننا لو تمثلنا نظاماً تسلسلياً للعد الأفقي، ( ١، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦ ) ونظاماً تسلسلياً للعد الهجائي ( أ ، ب ، ج ، د ، ه ، و ) ونجعله يمثّل التداعي العمودي للعد الأفقي.
فإننا يمكن أن نقيم نظاماً يجمع بينهما، وبعد بناء هذا النظام، فإن الشعرية تكمن في كسر هذا النظام من التداعيات، بنظام آخر ( متبادل\متجاوز -كناية\مجاز ... ) بين التداعيات.
ففي التبادل والتجاور مثلاً أقول: شممت الضوء وسمعت رائحة الدخان.
أو أقوم على المجاز المركّب فأقول، ربيعي سفينةٌ تسري بالأمواج الخضراء.
والشعرية لها تطبيقات متعددة تتشكل في كل المجالات الأدبية، ففي الشعر مثلاً.. فإننا نمتلك نظاماً صوتياً للألفاظ على صعيد القافية ونغمة الحرف، ونمتلك نظاماً صورياً مرتكزاً على المخيّلة والصورة الذهنية المتتابعة والمتحركة.
ففي نظام الصوت -مثلاً-، تقوم الشعرية على كسر الرتم الصوتي المعتاد التي تجبره التفعيلة في ما توقعه في الأذن عبر تراكيب هي تحمل في ذاتها جرساً يكسر جرس التفعيلة أو يطغى على جرس التفعيلة...
أما في جانب الصور -مثلاً، فالشعرية تقوم على تصوير متتابعٍ وفق منظومة واحدة كأن تكون الصور من داخل المدرسة واقعيةً أو المدرسة الرومانسيةً ثم تخرج بشطحةٍ نحو المدرسة السريالية.
والفكرة هذه ذات فلسفة في تكوينها، فهي ليست بالإطلاق الناشز هكذا، ولا بالصرامة الثابتة، وإنما تعود إلى رؤيا فلسفية كثيرة كمفهوم الثنائيات مثلاً، كثنائية الحضور والغياب، الرحيل والعودة، الظاهر والباطن، ومفهوم وحدة التناقضات، ومفهوم الثبات والحركة ... المجموعة كلها في مفهوم [اللوغوس].
من هذا المنطلق يمكننا أن ننفتح بزاية رؤيى جديدة في قراءتنا للشعر الجاهلي الذي يتمثّل في بنائه الشكلي ابتداءً من البكاء على الأطلال ثم الرحلة ثم موضوع القصيدة في كون ذلك كله تمثيل واضح للشعرية.
فالشعرية في الأطلال يمثل في فلسفته ذلك الفراغ المستحضر في مخيلة الشاعر للحياة القديمة والعلاقات والأحداث الذي يستدعيه المكان .... نظاماً واضحاً في تداعياته العمودية، ليكسره في ما يلي هذا التحفيز المكاني في وصف الرحلة والراحلة، ثم شعرية أخرى في غرضه من الشعر.


"الشعرية" التكافؤ الرياضي والتجاوز اللغوي

بعد أن استعرضنا فكرة الشعرية، في الرحلة السابقة، وعرّفناها بأنها النظام الذي يُكسر من أجل بناء نظامٍ فوق انقاضه.
بقي أن نضيف قولاً حول النظام الشعري والتكافؤ الرياضي فيه.
النظام الذي نعنيه هو القدرة على تجانس الأعداد في الجملة الشعرية الواحدة.
ولا نقصد بالجملة الشعرية شطر بيت أو بيت أو نصف القصيدة، وإنما هو المكوّن الشعري الذي يمكن حسابه من ناحية المعنى إلى جهة معينة، فقد يكون جهة المعنى في كلمة واحدة وباقي البيت في جهة أخرى، وقد يكون في بيت وقد تكون في قصيدة كاملة. وهكذا... فليس له مصداق واحد ثابت.
فكرة التكافؤ هذه تقوم على ايجاد معادلة متساوية بين طرفين أو أكثر؛ فلو أخذنا أي عملية حسابية تصاعدية لا تمتلك غاية، كأن أجمع عدداً زوجياً بآخر فردي واضربه على عدد آخر، فمهما كانت النتيجة فهي لن تشكل أي فارق.
بينما لو أوجدنا نتيجةً متوازية كأن أجمع ( ١ صحيح ) بـ ( -١ ) ليكون الناتج ( صفر ) . هنا سيكون التكافؤ في المعادلة ذو اشتغال حقيقي.
هذه المكافأة نجدها جليّة في الحالة الصوفية، فالحالة الصوفية -الشعرية- تعيش في ثنائيات انطفاء الذات واشراقه، الاحتجاب والظهور، الصمت والكلام، الأنا والهو، الوحدة والكثرة... إلخ
وهذه المكافأة العددية المسيطرة على الحالة الصوفية لا تتشكل منطوقةً إلا برؤية تجاوزية لغوية فهي تلجأ الى منظومة فكرية تجاوزية تكفل لصاحبها في حيثياتها التجاوز اللغوي، وطبيعة الحالة الصوفية بحد ذاتها القائمة على فكرة الاحتكاك الباطني بالمقدس بما يكفل الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب واتحاد الارادة الذاتية بالإرادة المطلقة على طريقة انسكاب مياه الجدول في البحر المحيط تحت ما يعنون بالمكاشفة؛ اذ تنعكس هذه المكاشفة على كل تفاصيل الإنسان وتظهر على أفكاره وسلوكه ولغته وهذا لا يتجلى فقط بالكتابات الشعرية الصوفية.
وفي نهاية المطاف من عاش هذه الحالة ودخل في أطوارها وكان شاعراً تمكن من الخروج بحالة لغوية تجاوزية وكذلك الحال لو كان رساماً لخرج بمظاهر لهذه الحالة التجاوزية من خلال مجموعة رسومات ولو كان موسيقارياً لظهر في انغام موسيقاه وألحانه .. وهكذا
فجوهر المسألة اذن ينبع من الحالة وينتهي في اللغة ووبالتعبير الصوفي ينبع من الغيب والمحتجب، وينتهي في التجلّي والانكشاف، وهذا ما يصنع الشعرية!


اخترت قصيدة ( مصطفى ) لـ الرائي عبدالله البردوني لسهولة التطبيق عليها، وإلا فإن المسألة تتعقد كلما تعقدت الفكرة والجمل الشعرية التي تعرضها، لذلك فإن بساطة هذه القصيدة من ناحية الجمل الشعرية يجعل تطبيق الفكرة واضحة وسلسة..
الجملة الشعرية الأولى:
فليقصفوا، لستَ مقصفْ ... ولـيـعـنـفوا، أنـــت أعــنـفْ
ولـيـحـشـدوا، أنت تــدري ... إن الـمـخـيـفـين أخـــــوفْ
أغــنـى ، ولـكـن أشـقـى ... أوهـــى ، ولــكـن أجــلـفْ
أبـــــدى ولــكــن أخــفــى ... أخــــزى ولــكــن أصــلــفْ
لــــهـــم حــــديـــد ونــــــار ... وهـم مـن الـقش أضـعفْ
الجملة الشعرية الثانية:
يـخـشـون إمــكـان مـــوتٍ ... وأنـــــت لــلــمـوت أألــــفْ
وبــالــخــطـورات أغــــــرى ... وبـــالــقــرارات أشــــغـــفْ
لانـــــهــــم لـــهـــواهـــم.. ... وأنــــت بــالـنـاس أكــلــفْ
لـــــذا تــلاقــي جــيـوشـاً ... مـــن الــخـواء الـمـزخـرفْ
الجملة الشعرية الثالثة:
يـــجـــزئـــون الـــمـــجــزأ.. ... يــصــنــفــون الــمــصــنـفْ
يــكــثــفــون عــلــيــهــم.. ... حــراســة، أنــــت أكــثـفْ
* * *
كـفـجـأة الـغـيـب تـهـمـي ... وكــالــبـراكـيـن تــــزحـــفْ
تــنــثـال عـــيــداً، ربــيــعـاً ... تـمـتد مـشـتىً ومـصـيفْ
نـسـغـاً إلـــى كـــل جــذر ... نـبـضـاً إلــى كــل مـعـزفْ
نلاحظ في الأبيات السابقة القيم التي يحددها جهة المعنى، وهي كالتالي:-
فليقصفوا، (-)
لستَ مقصفْ (+)
ولـيـعـنـفوا (-)
أنـــت أعــنـفْ (+)
ولـيـحـشـدوا، (-)
أنت تــــدري إن الـمـخـيـفـين أخـــــوفْ (+)
فيشكل الناتج: صفر
ـــــ
ثم ينتقل في وصف جهة ( - ) ليكثّر القيمة
أغــنـى وأشقى (-)
أوهـــى واجـــلفْ (-)
أبـــــدى وأخــفــى (-)
أخــــزى وأصــلــفْ (-)
ثم يأتي مجموع الوصف ككل واحد في قيمته:
لــــهـــم حــــديـــد ونــــــار (-)
ليتم طرحه مع ما يكافؤه ليعيده إلى نصابه الصفر:
وهـم مـن الـقش أضـعفْ (+)
ويضع هذه الجملة الشعرية كمعطى جديد لتكثير الوصف المقارن في الجملة الشعرية الثانية فيقول:
يـخـشـون إمــكـان مـــوتٍ (-)
وأنـــــت لــلــمـوت أألــــفْ (+)
وبــالــخــطـورات أغــــــرى (+)
وبـــالــقــرارات أشــــغـــفْ (+)
لأنـــــهــــم لـــهـــواهـــم (-)
وأنــــت بــالـنـاس أكــلــفْ (+)
ويعلن في نهاية الجملة الشعرية بالناتج كما فعل في مجموع الوصف في الجملة الشعرية الأولى
لـــــذا تــلاقــي جــيـوشـاً (+)
مـــن الــخـواء الـمـزخـرفْ (-)
ويستمر بنفس الطريقة في الجملة الشعرية الثالثة ما تبناه بعد اثقال كفّة جهة، ليعيد النصاب إلى الصفر:
يـــجـــزئـــون الـــمـــجــزأ (-)
يــصــنــفــون الــمــصــنـفْ (-)
يــكــثــفــون عــلــيــهــم حــراســة (-)
أنــــت أكــثـفْ (+)
كـفـجـأة الـغـيـب تـهـمـي (+)
وكــالــبـراكـيـن تــــزحـــفْ (+)
تــنــثـال عـــيــداً، ربــيــعـاً (+)
تـمـتد مـشـتىً ومـصـيفْ (+)
نـسـغـاً إلـــى كـــل جــذر (+)
نـبـضـاً إلــى كــل مـعـزفْ (+)
وهكذا تعود النتيجة : ( صفر ) .
ولأن الشعرية تستلزم وجود نظام ثابت، ليُكسر حتى يتم بناء النظام الآخر على انقاضه، وبعد تناولنا للنظام الرياضي المتّبع في قصيدة مصطفى وما تحتويه من جهة المعنى السالب والموجب في الجملة الشعرية الواحدة، فإنه يمكن رؤية الدلالة المتضمنة فوقه في كونها المشرفة على النظام الآخر المشيد فوق ما كُسر.
قام البردوني بعقد مقارنة فارقة بين صفات شخصية مصطفى وأعدائه، فألبس كل ما يمكن للقوي أن يكون في أعدائه، وكل ما للضعيف أن يكون في مصطفى.. ففي عز قوة العدو هو أضعف ما يكون أمام مصطفى، وفي كل صفات الضعف في مصطفى هو أقوى ما يكون على أعدائه.
تنوّع اسلوب عقد المقارنة في بداية القصيدة، فبدأ بلفظ " فليقصفوا - وليحشدوا " ... رغم ما تحمل الكلمة من عنف، إلا أن الاسلوب يحكي عدم الاهتمام والمبالاة بهذا العنف، فأنت يا مصطفى بعيداً عن أهداف قصفهم، مخيفاً رغم حشودهم.
ثم انتقل إلى اسلوب تعدد صفاتهم التي تزيدهم وهناً وضعفاً وهم يحسبونه قوة، فيقول: " أغنى ولكن أشقى"، "أوهى ولكن أجلف"، أخفى ولكن أبدى" " أخزى ولكن أصلف" وفي هذا الاسلوب يضيف الشرَّ فيهم مستدركاً إلى ما يجعله أكثر شرّاً .. وينتهي في تعداد صفاتهم بالنتيجة التي خلاصتها أنه مهما بدا ذلك الشرّ قوياً " لهم حديدٌ ونارٌ " فـ" هم من القشِّ أضعف" و " يخشون إمكان موتٍ" أما " أنت، للموت أألف " .... إلخ
ومن الملاحظ أن الصفات المذكورة، تحمل الرعونة والخشونة والجلافة والصلافة .. كل ذلك يحمله اللفظ متعاضداً مع المعنى، ( اعد قراءة الأبيات ، منتبهاً على نغمة الألفاظ ونسقها وستجد كيف يماشي المعنى بدقّة ) .
ثم ينتقل في تعداد صفات مصطفى الغارقة في اللطافة والسماحة فيصفه:
كفجأة الغيب تهمي ... وكالبراكين تزحف.
وهنا التفاتةٌ ذكية جداً، فالتشبيه بالغيب الذي يهمي فجأة، يحمل المجهول، بين أن يكون هذا الغيب لطيفاً كالغيث والمطر، وبين أن يكون شديداً كالأعاصير الشديدة،كذلك التشبيه بالبركان الزاحف الذي يحمل ذات الصورتين المركّبة، فبينما تجد اللطافة في حركة المجما الزاحفة من أعلى القمة إلا أنها تحمل معها التدمير الذي يخلفه على كل ما يمرّ به.
صورة تركّب اللطافة بالقوة، كهذه الصورة، جديرةً بأن يسبح الخيال فيها حتى يغرق..
ويستغرق في صور اللطافة أكثر وأكثر.. فيقول:
تــنــثـال عـــيــداً، ربــيــعـاً ... تـمـتد مـشـتىً ومـصـيفْ
نـسـغـاً إلـــى كـــلِّ جــذر ... نـبـضـاً إلــى كــل مـعـزفْ
هكذا ...
حتى يصل إلى الوقفة الصريحة وفق سؤال يطرحه على مصطفى نفسه ..
فيقول مبتدئاً موضحاً أنه ليس إلا رجل بسيط:
يـا "مـصطفى" : أي سـر ... تـحـت الـقـميص الـمـنتفْ؟!
ويقدم محاولات الإجابات المكثّرة لمفهوم الرجل البسيط على نفس النسق، كاسراً كل مفهوم بدهي للقوة..
هــل أنــت أرهــف لـمـحاً ... لأن عـــــــودك أنــــحـــفْ؟
أأنــــــت أخـــصــب قــلــبـاً ... لان بـــيـــتــك أعــــجـــفْ؟
هـــل أنـــت أرغــد حـلـماً ... لان مــحــيـاك أشــظــفْ؟
ليعيد تشكيل الفهم في آخر رؤيته بالإجابة الواضحة أن هذا الشخص الموعود (مصطفى) يحمل معه الزمان الحقيقي الذي لم نألفه في قبال الزمان المزيّف الذي ينظر إلى البطش والرعب والرعونه ... وغيرها كونها صفات القوي الغالب دائماً!
يـا "مـصطفى"، يـا كـتاباً ... مــــن كـــل قــلـب تــألـفْ
ويـــازمـــانـــاً ســـيـــأتـــي ... يـمـحـو الــزمـان الـمـزيـفْ


النص بين الإبداع والرؤية

الاختلاف بين الإبداع في النص الأدبي والرؤية في النص الأدبي

من المهم جداً أن يتم التفريق بين النص المبدع والنص الرؤيوي في قراءاتنا للنصوص الأدبية،
فالإبداع هو أقرب لما عرضناه في مفهوم الشعرية، لأنه عبارة عن عملية استخراج ما هو جديد. والإبداع ككلمة ترجع بجذرها إلى بِدعة، والبدعة هي كل مستحدثٍ لم يألفه الناس من قبل.
بينما الرائي يكون أقرب إلى ما نطلق عليه مفهوم العبقرية، إي أقرب إلى النبوءة منها إلى الشعرية، والعبقرية ليست سوى عملية استقبال إلهام محدّدـ قد يتمثل هذا الإلهام بما هو عابرٌ ويومي في حياة الناس فكل الناس تراه لكن من يرصده هو واحدٌ فقط.
فنتفاجأ أمام نص العبقري وتسأل نفسك: كيف اكتشف هذا الشيء أو كيف رصد هذه الحالة من هذا الشيء الذي أراه كل يوم دون أن انتبه له!
العملية في العبقرية لا تقوم على فنيّات أو ألاعيب لغوية -كما في النص الإبداعي- بقدر ما تقوم على ذهنية صافية خارقة للعادة الفكرية، تنظر إلى المحتجب عن أعين الناس وترصده ولهذا السبب سميت عبقرية لما تحمل هذه الكلمة من إرث متعارف عليه يتمثّل باسطورة وادي عبقر وشياطينه التي توحي بما توحيه لأذهان الشعراء، والملهمين والمهوسين ..تماما كما لو كان العبقري شخص يعيش حالة الرسولية وهو يربط كقناة بين عالم الجن وما فيه من أساطير وغيبيات وخفايا وبين عالم الواقع اليومي.
أو مثل شخصٌ يمتلك عيناً تتلاشى فيها غشاوة المادة، فيرى ويرصد تلك المحجوبات جنباً إلى جنب مع هذه الماديات الواقعية، فوحده العبقري يدرك برؤيته الخاصة للعالم والكون والإنسان والطبيعة الإلهية تناص الحقيقة مع الواقع، وبأن الواقع لا يعني الحقيقة كما أن الحقيقة لا تعني الواقع في معية اتصاله لا انفاصله.
ولهذا التقرير والتفريق عدة صياغات، فما يراه هايدخر في (إنشاد المنادى) من الإنصات لصوت اللوغوس في النص ماهو إلا تعبيرٌ آخر لذلك الإلهام من وادي عبقر ... وتتكثّر الصياغات والمفهوم واحد


ملحق

تحدّث الدكتور عبدالله ابراهيم عن الشاعر الضرير والرؤيا في مقالةٍ أراها ممتازة لذا اقتبس منها بعض المقتطفات.
"ما بلغ أحدٌ منزلة الرؤية الكاملة، فسائر الناس يتقاسمون منازل متفاوتة من الإبصار والعمى الواقعيين والرمزيين، وقلّة قليلة منهم بالرؤية استبدلت الرؤيا"
" حيثما جرى الحديث عن العمى في حقل اللغة، فهو حديث عن الإبهام، والالتباس، والغموض، وحيثما وقع الحديث عن الإبصار فهو حديث عن الكشف، والظهور، والمشاهدة، والمعاينة، وقد تكون تلك مغالطة فما كلّ ضرير بفاقد للرؤيا، وليس كل مبصر بحائز على الرؤية، فالأولى تبصّر داخلي بالأحداث، واستكناه جوهرها، وغايتها، ومنتهاها، فيما الثانية إسقاط البصر على الأشياء، والاكتفاء بما تراه العين منها. أثمرت الرؤيا معرفة تأويلية اعتمدت على التقدير والتخمين، وكشف المعاني الخفيّة، والمقاصد الاحتمالية، والتعبير بالظنّ عن اليقين، وذلك هو قوام الأدب، وعماد الثقافة، حيث يقين الخيال الخصب لا يقين الأهواء المضطربة، فيما أفضت الرؤية إلى معرفة وصفية غايتها الوقوف على الأشياء، ورسم صورها، والإلمام بمظاهرها الخارجية؛ فالظفر برؤيا ثاقبة خير من رؤية عليلة مريضة كَلِيلَة، وفيما يحتمل حدوث تخليط في الرؤية، فمن المحال أن يغيب الصواب عن الرؤيا التي نجمت البصيرة عنها."
" وحينما يجري الحديث عن علاقة الأعمى بالعالم، فيفضّل الحذر من القول بمطابقة بين الأشياء وصفاتها الدقيقة، ولهذا ينشط الخيال الخلاّق عند العميان، لأنهم ينتهكون الحدود التي ارتآها المبصرون للعلاقة بين الأشياء والكلمات المعبّرة عنها، فلا يتوقّع منهم تمثيل شفاف للعالم، بل تخيّل مفرط عنه. وقد يبدو الربط بين الأسماء والمسمّيات ضعيفا عند المكفوفين مقارنة بالمبصرين، غير أن مهارات التذكّر، والاستحضار، والاستدعاء، وقوة الانتباه، والخزين السمعي للمعارف تعوّض عن ذلك؛ ففي ظل غياب المثير البصري تفعل مثيرات الحواس الأخرى فعلها في تجميع الصور الذهنية والحسية عند المكفوفين."
"يستعير الكفيف أوصاف العالم ممّا يسمع ويعقل، وليس بما يرى ويشاهد؛ فيتدبّر أمره في الاعتماد على الصيغ اللفظية، ويتجنّب الحسيّة، والمرئية بخاصة، فيغلب أن تكون ألفاظه غزيرة بإزاء معنى لا حاجة له بذلك السيل من الألفاظ؛ لظنّه أنه بهذه الغزارة يزيد في إيضاح أمر غير مرئي لديه، وإلى ذلك، فالأعمى يستثار بالألفاظ، ويتتبّعها، ويتقصّاها، ويطرب لها، ويتغنّى بها، ويزيد فيها إطناباً وإسهاباً، وينوّع في دلالاتها المتعدّدة عساه يشبع رغبة في الإفصاح عن نفسه، ولا معنى للكلمة عنده إلا إذا تلفّظ بها، فتتأكّد أهميتها بالنطق، وليس بالرسم والتدوين، وهو على خلاف المبصر لا يعرف شكلاً للكلمة إنما يلتقط صوتا يحملها إلى الآخرين، وقد نتج عن ذلك أن الضرير يكدّ في جمع الألفاظ، وينقّب في تحصيلها، ولا يترك فرصة إلا ويصبّها في قوالب شفوية للتعبير عن مقاصده، ويلاحظ تكراراً للموضوعات التي يعالجها العميان، والصيغ التي يستعينون بها للتعبير عن شؤونهم."
" وقد يفضي عدم الدقّة في مجال الأدب إلى إطلاق الخيال إلى مداه الأوسع في التعبير عنها، فلا قيود تحول دون العبور إلى المناطق الجديدة له، ولا حدود تكبح الخيال من أداء فعله، وعلى الرغم من ذلك يظهر التكرار بسبب الرغبة في التأكيد والإفهام، وتتراءى الصيغ الجاهزة في الوصف المُتخيّل؛ لأنّ مصدر الذاكرة يغذّي القريحة بقوالب ثابتة من الأقوال لا سبيل لاستبدالها، وبخاصة في الآداب الشفوية، ومثالها الملاحم القديمة عند هوميروس، فتتوالى الإيقاعات نفسها في وصف المعارك والخيول والرماح والأبطال؛ فالشاعر الضرير يغرق في الاتّكاء على الصيغ الجاهزة؛ لأنها ذخيرته الأساسية التي يصقلها عبر الإنشاد، وبها يستبدل، في الآداب النثرية المدوّنة، الإسراف في الشروح، والإطالة بها."


لتوضيح الفرق بين النص الإبداعي والنص الرؤي فإنني اقتبس نصين أحداها لعملاق الأدب الروسي فيدور دوستويفسكي (الإبداعي) بينماالآخر للرائع ميلان كونديرا (الرؤوي) .

يقول فيدور دوستويفسكي في قصته القصيرة بعنوان بوبوك:
" .... وبالإضافة للجنون.. فقد قاموا باعتبار عدداً ضخماً من الناس مجانين في العام السابق، ويا له من شعار! " هذه الموهبة الأصلية التي تظهر رغم كل شيء .. اكتُشفت متأخراً" . هذا أمر ماكر إلى حد ما. ومن وجهة نظر الفن الحقيقي يمكن حتى اعتبار ذلك مديحاً. ولكن بعد كل شيء فقد أصبح من يطلق عليهم مجانين أحكم وأذكى من السابق، لذا يبدو أن بإمكاننا أن نجعل الناس تجن، ولكن لم نستطع أن نحسن حالة أحدهم.
وأكثر الناس حكمة من وجهة نظري هو من يطلق على نفسه أبله، حتى وإن فعل ذلك مرة واحدة في الشهر، وهو شيء لا نسمع به في أيامنا هذه، قديماً كان يمكن لأحمق أن يتعرف على حماقته بدرجة ما، ولكن في أيامنا هذه لا يحدث ذلك مطلقاً. وقد قاموا بتشويش الأمور حتى لا يمكن أن تفرّق بين الحكيم والأحمق. وقد فعلوا ذلك عمداً. "



يقول ميلان كونديرا في روايته: كائن لا تحتمل خفته عن جمال نيويورك: ...... كانت سلالم معدنية ترتقي واجهات البيوت قرمدية حمراء قبيحة، وهذه البيوت كانت من البشاعة إلى حد أنها صارت جميلة. على مقربة منها تنصت ناطحة سحاب زجاجية وخلفها ناطحة سحاب أخرى في أعلاها قصر عربي صغير مزدان بالأبراج والقناطر والأعمدة المذهبة.
كانت تفكر في لوحاتها: هناك أيضاً ثمة أشياء تتجاور مع أن لا علاقة لبعضها البعض: من الأمام مصاهر حديد في طور البناء وفي خلفية اللوحة مصباح .. وفي لوحة أخرى مصباح آخر كمّته القديمة التي من الزجاح المرسوم تشظى إلى جزئيات صغيرة تعلو مشهد مستنقعات حزين.
قال فرانز: كان للجمال الأوروبي على الدوام طابع تعمدي .. وكان هناك في أصله دائماً مقصد جمالي وخطة ذات نفس طويل.. فاقتضى بناء كاتدرائية أو مدينة من عصر الأنوار، على أساس هذه الخطة، قروناً طويلة.
أما جمال نيويورك فمختلف تماماً، إنه جمال غير تعمّدي، نشأ دون أن يتعمد الإنسان التفكير به كمثل مغارة الماء المتحجر. فهو مؤلف من أشكال قبيحة بحد ذاتها ولكن تجاورها صدفة ودون أي تصميم مسبق وبشكل غير مرتقب يجعلها تتألق فجأة بشاعرية ساحرة.
قالت سابينا: تقول الجمال غير التعمّدي، صحيح .. ويمكننا أن نضيف أيضاً الجمال من غير قصد. فقبل أن يختفي الجمال نهائياً عن وجه الأرض، سيبقى موجوداً لبعض الوقت إنما عن غير قصد. فالجمال عن غير قصد هو آخر مرحلة من تاريخ الجمال.
كانت تفكر في لوحتها الأولى التي تعدُّ ناجحة فعلاً وحيث سال طلاء أحمر عن غير قصد فوقها. نعم، كانت لوحاتها مرسومة وفقاً للجمال غير التعمدي، وكانت نيويورك الجزء الخفي والحقيقي من لوحاتها.
قال فرانز: ربما جمال نيويورك غير التعمدي هو أكثر غنى وتنوعاً بكثير من الجمال المفرط في الصرامة والذي هيأته مسبقاً خطة إنسانية. ولكن جمال نيويورك مختلف تماماً عن الجمال الأوروبي. إنه عالم غريب.
كيف؟ أيوجد شيء ما يتفقان في الرأي بشأنه؟
لا، هنا أيضاً الأمر مختلف. فغرابة الجمال النيويوركي تجذب سابينا بجنون. بينما هي تسحر فرانز وترعبه في آن وتثير فيه الحنين إلى أوروبا.


 ٧ أبريل ٢٠١٧ م