التحليل الفني

لوحة قطب الرحى

حيدر المعاتيق

بتول محمد علي

التعريف بالفنان


كلُّ ما في الكون يدري من تكون!

محمد صرخوه

الفنان الكويتي محمد صرخوه، فنان وشاعر وراعي قهوة، متفلسف وصاحب مزاج وكيف، ينحدر من عائلة نواخذة ومن أصول فارسية انحدرت من إقليم خوزستان، ولد في الكويت وعاش فيها، متزوّج، ومن أسرة متدينة شيعية، تعلّق بالإمام المهدي منذ طفولته، درس الفلسفة وعلوم الإنسان على يد الأستاذ محمد عبدالله السعيد، في ورشة السهروردي وكان من أبرز تلامذته.

عانى من أيام عصيبة أدّت إلى غرابة أطواره واتجاهه إلى الوحدة والعزلة، ونتج منها نظرة سوداوية إلى الحياة وتعلّق بالأمل الغيبي المتمثّل في المخلّص، ملتزمٌ بتقديم قصيدة مهدوية في كل عام للإمام المهدي يصاحب هذا الالتزام عزلة قد تمتد إلى أسبوعين لولادة النص المهدوي.

صاحب مركز المشرق الثقافي، وهي عبارة عن أخوية تدرّس الفلسفة بشكل جماعي تنظر إلى الواقع المعيشي كمسرح للفلسفة، حيث ينظر إلى الفلسفة على أنها حياة وليست مجرّد أفكار تدرّس بالتربية وليس بالتعليم وهي فكرة أفلاطونية في الأساس.

له دواوين كثيرة أهمها: في حضرة السهرورد، روح القدس، وقطب الرحى.

وكتب في التأملات الفلسفية منها: هناك حيث يستوي خبزك، كتاب اللوتس.

قدّم العديد من الورش والمحاضرات النقدية والفلسفية في العديد من المنصات الثقافية في الكويت ومثّل الكويت في العديد من الدول ونال العديد من الجوائز المحلية والإقليمية منها جائزة توليولا الإيطالية بالمركز الأول عن قصيدته المهدوية (الركبة الهشّة للضوء) لعام ٢٠١٩م.

شعار ورشة السهروردي الفلسفية
شعار مركز المشرق الثقافي

اللوحة


قطب الرحى

التعريف والمعنى

قطب الرحى أيضًا مصطلح ينتمي إلى التصوّف حيث يعتبر القطب هو أعلى مرتبة يصل إليها السالك، وهو من ملك الطلسم الذي يشرح الكون، ومن خصائصه أن يكون أكمل الناس ولا حدّ لعلمه، ويمكنه الانتقال حيثما شاء في الزمان والمكان فيتصرف في الكون كيفما شاء. 

قطب الرحى في اللغة هو اسم الآلة التي تطحن الشعير ليستوي خبزًا، ويتكون من حجرين دائريين مثبتان في الوسط بمحور قائم على الطبق الأسفل من الآلة ليدور عليها الطبق الأعلى.


يشير مفهوم القطب على وجود طرفي نقيض تتمثل في إدارة القوى بين الأشياء لتعود إلى نقطة ثابتة واحدة (قطب الرحى)، متحكمة فيها وغير متأثرة.

ودلالتها في وجود الصراع بين النقائض (الخير والشر) (البارد والحار) (الجنّة والنار) (الإيمان والكفر) (الهداية والغواية) … إلى آخره.

واجتماع النقيضين يولّد لنا اللوجوس (Logos)


تعد لوحة (قطب الرحى) تابعة لسلسلة من النتاجات الفكرية والفلسفية للفنان، تضم في مجموعتها كتاب اللوتس في التأملات الفلسفية وهكذا حيث يستوي خبزك، وديوانه الأخير قطب الرحى، يطرح فيهم رؤيته الكونية الخاصة في خضوع الكون كله لإمامة العقل المتمثّل في شخصية المهدي المنتظر وفق منظور فلسفي وليس مذهبي، ففي كتاب اللوتس يبدأ تأمله من مفهوم المكان والزمان وصراع الحواس مع العقل في معرفة الحقيقة بتتبع المتغيرات والمتحولات  والبحث عن الثبات والسكون ليحكم بقاعدته ومقياسه على المتغيرات بمعنى آخر التفتيش عن القانون العام الذي يحكم كل شيء، فيتوصل إلى ضرورة حضور الإمامة والقيادة في شخص يُحتكم إليه فيقاس به كل شيء ولا يكون هذا الشخص المحاكي لإمامة العقل إلأ بأن يكون ممسوسًأ في ذات الأحدية، وهو تمامًأ ما توصّل إليه في كتاب (هكذا يستوي خبزك) بطريق آخر منطلقًا فيه من مفهوم الطاقة (الشاكيرا) في أداء الصلاة.

ولقراءة هذه اللوحة لابد من الانتباه إلى هذه النتاجات كونها تمثّل التعبير والتأويل لفكرة الفنان كخلاصة معرفية فلسفية، بينما ديوان قطب الرحى الذي يعتبر مجموعة شعرية بما يسميه (طقس الشعبانية) وهي حوليات يكتبها في ١٤ شعبان ذكرى ولادة الإمام المهدي قطب الرحى، كان لها نصيب في أن تكون مثقلة بهذه الرؤية وممكن ملاحظة ذلك بشكل واضح.

في المنفى ينخبز المعقول بأفران اللهب العاقل

ويحقق ملحمة القمح

في المنفى هندسة القمح

محمد صرخوه

دلالة الألوان

استخدم في اللوحة ألوان محدودة، واعتمد على الألوان المتضادة فقط، الأبيض والأسود، والأحمر والأزرق.

اللون الأسود

في اللون الأسود الذي سيطر على غالبية اللوحة في أطرافها، وهذه المنطقة السوداء المحيطة بالمستطيل الأبيض تمثّل خارج الحدود ولعلّها حدود معرفة العقل، حدود الوجود، حدود الكون، ويمثّل أيضًا امتدادًا لانهائيًّا وعمقًّا أو فراغًا لا نهائيًّا.

واختار النقطة السوداء للتمايز والمعاكسة.

 

اللون الأبيض

أما اللون الأبيض فهو يمثل النظام الواضح أو المكشوف، فيكون تحت العيان والنظر، بساطًا للمعاينة، أو كشفًا للموجود.

اللون الأحمر والأزرق

يمثّلان معًا ألوان الطاقة (الحارّة والباردة)، ويمثّلان أيضًا ألوان السديم السماوي.

اللون الأصفر

جاء اللون الصفر للدلالة على الهداية وانبعاث النور، مقاربة إلى الرسم التصويري لأوجه المعصومين ومتمثّل في الآية : (وأشرقت الأرض بنور ربّها) حيث الإشراق يكون بلون الشمس الأصفر 


الرؤية الكونية

الكوزمولوجيا

تمثّل النقطة السوداء في اللوحة تشابهًا مع الرؤية الفيزيائية للكون، في بداية الانفجار الكبير (Big Bang)، ويشكل الإنفجار الكبير تبعثر الأيونات في اتجاه واحد، فكلّما زادت المسافة، اتسع الكون بشكل مخروطي، محاكيًا بعثرة الأشياء من النقطة السوداء في اللوحة وتناثر الأشكال، ونلاحظ أن الأشكال تأخذ في الكِبر كلما صعدنا، كذلك فيما يتعلّق في الإنفجار الكبير، في تنطلق ن الأيونات الأصغر حجمًا إلى الذرات ثم المادة حتى تشكل الجزيئات وصولا إلى الشموس والنجوم والمجرات.

أو في ما يعاكس هذه النظرة متمثلة في الثقب الأسود الذي يجر ويبتلع بفعل جاذبيته القوية كل الأجرام نحوه إلى العدم.

فإذن فهي نظرة إلى بداية كل شيء، ونهاية كل شيء. متمثّلة بالنقطة.

أما ما يخرج من النقطة السوداء، فهو شبيه أيضًا في الرؤية الفيزيائية للكون من تناثر المادة matter ومضادها Antimatter، عنصران يشكلان التضاد التام، ويكتنزان في داخلها الطاقة المنفردة المعاكسة للآخر، فإذا ما تم دمجهما أعدمت إحداهما الأخرى، واذا ما استقلت كل واحدة عن الأخرى خلقت عالمًا بقانونها الفيزيائي المغاير عن الأخرى.

فإذن نحن أمام نظرة لبناء عالمَين فيزيائيين ذات قانونين مغايرين ومتضادين ومستقلين في آن واحد


دلالة التنصيص

يستخدم التنصيص في النصوص إذا أراد الكاتب أن يكتب نصًّا هو ليس له.

قال تعالى: { إقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق}

العلق ليست علقة الدم كما ذهب إليه المفسرون، إنّما العلق في أيام الجاهلية كان هو النصّ المعلّق في الكعبة، أي أن دلالة الآية تقول بأن الله خلق الإنسان ناصًّا.

أبوعلي السعيد

استفاد من هذه الفلسفة التي طرحها أستاذه أبو علي السعيد في أن ينظر إلى الكون معبّرًا عنه بالنص، وهي تابعة إلى رؤية هايدغر (إن اللغة بيت الوجود)، فصوّر الوجود المبعثر من النقطة السوداء على أنها عبارة عن نصوص، ويمكننا أن ندخل مدخلًا آخرًا من خلال برمجة الحاسوب حيث تستخدم هذه العلامة في الجمل البرمجية.

في كلا الأحوال فإن الأشكال تعبّر عن أن الوجود هو تابع إلى جهة أخرى صنعته وبرمجته على وظيفته.

ترى آدم البرنامج الجامع الذي .. حــواه نعــوت الحضــرة الأحـــديّة

فـلا بدّ مـن برنامج فـي أمـوره .. وفـي عمل البرنـامج من حريمه

حسن حسن زاده آملي

وتشير فلسفة أفلاطون على أن الكلام (اللغة) هي محاكاة للحقيقة (الفكرة) في عالم المُثل (عالم الحقائق)، فالكثرة الموجودة (المكررة) هو تعبير واحد عن حقيقة واحدة نرجع إليها، فكل شيء هو محاكاة لنفس الحقيقة وإن تغيرت مظاهرها.

كل الأحاديث هي عبارة عن تكرار وكثرات، الحقيقة واحدة

محمد صرخوه

يشير المربع الأبيض إلى مفهوم الزمكان وهو كما وضّحه أينشتاين عبارة عن ثلاث أبعاد مكانية [الطول والعرض والعمق(الارتفاع)] وبعد زماني فيشكلان أربعة أضلاع هم أساس وجود كل شيء نراه.


البياض داخل الإطار هو عبارة عن تمثيل للنسيج الزمكاني والنقطة السوداء هو الجرم الذي يصنع الإنحاء المخروطي في النسيج.

كل الأشياء في النسيج الزمكاني التي تحمل ثقل تسبب إنحناء مخروطي تجذب الأقل كتلة منها لتدور في حلقاتها بشكل مدارات إهليلجية حتى تفقد كل طاقتها وتندمج في الكتلة الأكبر.


دلالة العناصر في اللوحة

السيميولجيا  

الجزء الأبيض في اللوحة الجزء العلوي المتحرّك من الرحى لأنه عالم المتغيرات حيث تتحرك الأجسام بشكل دائم.

يمثل الجزء الأسود في اللوحة الجزء الثابت حيث لا تحكمه قوانين وهو قائم بذاته حامل بالنسيج الزمكاني وقوانينه.



السواد في الأطراف يمثّل الامتداد غير المرئي أو الفراغ غير الممتلئ بشيء، أو خارج المعقول التي لا يحكمها قوانين النسيج الزمكاني.



يمكن النظر إلى اللوحة كما هي مرسومة على شكل أضلاع، وكأننا ننظر إليها من جهة عمودية، ويمكن تحريك المخيلة بالنظر إلى الأشكال بما تحملها من أثقال على شكل مخروط، ممتد إلى النقطة السوداء مشكلا مدارات لولبية، فالسواد يعبّر عن الفراغ الأوسع، والنقطة هي بداية انطلاق عالم ممتدّ ومحدود بكل ما فيه داخل هذا السواد.


يحيلنا شكل المثلث إلى المفاهيم التي طرحها فيثاغورث (الفيلسوف الإغريقي) والتي يشرح فيها أصل الوجود حيث لاحظ أن الوجود متغيّر في أوصافه وعوارضه، بينما العدد ثابت، وجعل فيثاغورث أهمية للعددين (3 و 4) ومجموعهما (7).

وهذه الأرقام تحقق التناغم في اللوحة

أضلاع المثلث + تكرار اسم محمد ثلاث مرات

أحرف اسم محمد

أنغام السلّم الموسيقي - عدد الكواكب المتنقلة - عدد السماوات - عدد أيام الأسبوع - الطواف - حروف (لا إله إلا الله) - الأرضين - أيام خلق الأرض … إلى آخره.

الوتر والشفع عند فيثاغورث: هما المحدود واللامحدود وهما يعنيان أيضًا المكان، ويمثّلان المتضادات على نسق واحد ومتعدّد (يمين-شمال) (ذكر-أنثى) (سكون- حركة) (خير-شر) (نور-ظلمة) .. إلى آخره.

هذا الصراع الذي يدور على المتضادات هو ما يظهر الوجود، فأصل كل شيء هو ناتج العنصر الثابت والعناصر المتغيّرة.

فالنقطة الواقعة في الزاوية القائمة هو ناتج الوجود (اللوغوسLogos).

في المنفى زاوية قائمة بين القائم والمائل،

تتلاشى ما بين الأشياء يد الفاصل

محمد صرخوه

القطبية في اسم محمد

تكرار اسم محمد لـ ثلاث مرات كان له عدة أسباب:

  • أولنا محمد أوسطنا محمد آخرنا محمد، وهم نور واحد لحقيقة واحدة.

  • تشكّلات الاسم كانت على شكل المرآة (جاء التكرار في الجانب الأيمن والأيسر على شكل انعاكس في المرآة).

  • في عوالم اللامعقول واللامرئي والمحتجب يوجد حاكم واحد وحقيقة واحدة والتكرار توكيد على ذلك.



عناصر قطب الرحى

  • العناصر الفنّية:

    1. الخطوط Lines :

      الخطوط العمودية:

      تتمثل في حدود الإطار واسم محمد المنعكس في جهة اليمين واليسار، الامتداد العمودي في الإطار يشكّل إحساسًا بالبعد الثالث، وهو العمق الفراغي أو الحدود الصلبة الممتدّة مما خلق توازنًأ في اللوحة، وأعطى معنى التباين للعالمين؛ العالم الأول ذو حدود واضحة، والآخر ممتدّ إلى مالا نهاية.

      الخطوط الأفقية:

      أعطت انطباعًا بالأجسام بالرؤية المحدودة والثبات وشعورًأ بمدى بعد الأجسام وقربها من بعضها البعض.

      وتلاقي الخطوط العمودية والأفقية خلق عالمين متداخلين في بعضها البعض في علاقة احتواء كامل (المجموعة الصغرى في الكبرى)

      الخطوط المنحنية:

      تتمثل في علامات التنصنين، حيث أن الخطوط المنحنية توحي بالحركة واتجاهها.

    2. الأشكال Forms :

      الدائرة: تشير النقطة المتمثّلة بالدائرة إلى البداية والنظام الكامن الكامل المغلق والطاقة المحبوسة.

      المستطيل: يمثل الترتيب والاستقرار والحساب الرياضي بالنسب الثابتة، والصلابة وهي تعطي المطابقة والتماثل، فهو يرتبط بالجانب المحسوس.

      المثلث: رمز الروح والمبادئ الإلهية، النور والحرارة والحياة، أعطت الفكرة مفهومها الثلاثي: خالق - مخلوق - عملية الخلق، بالإضافة إلى كونها روحية ذات التماس تام والتحام بالهيمنة على المادة.

      الأشكال الحرّة: متمثلة في علامات التنصيص خالقة الحركة الدائمة في العمل الفنّي، موحية باتجاه حركتها من وسط العمل إلى الأعلى.

    3. الفراغ Space :

      الفراغ يشكل في العمل الفني مساحة لتوزيع العناصر وترابطها معًا:

      ١. الفراغ العلوي:

      فراغ في أعلى اللوحة يعطي الأشياء حقيقتها في الارتفاع والانخاض وتأكيدها برسوخ الأشكال فيها وثباتها.

      ٢. الفراغ المحيط:

      فراغ يحيط بجميع جوانب العمل الفنّي، ولا يُعتبر فراغًا فقط، بل يشكّل مادة تدخل ضمن العمل أو جزءًا تركيبيًّا له القدرة على تماسك أجزاء العمل وصلهم ببعضهم البعض.

      ٣. الفراغ الأمامي:

      فراغ الأبيض الذي يعطي الإحساس بحركة الأشياء والإدراك نحو لحظتها الزمانية.

    4. القيمة Value :

      متثمثلًا في البياض والسواد، حيث السواد الذي يمثل المحتجب، أما البياض فهو يمثل الظاهر.

    5. الملمس Texture :

      اللوحة مسطحة ليس لها أبعاد.

    6. الظل والنور Light $ Shadow :

      لا يوجد.



مبادئ قطب الرحى

  • الحركة Movement :

    يخلق الفنان عبر عمله الفنّي طريقته في عرض الحركة متمثلةً في استخدام الخطوط المنحنية في علامات التنصيص باتجاهات وأحجام مختلفة متناثرة من أصغر حجم إلى أكبر حجم على خط عمودي، يضفي اتجاه الحركة ابتداءً من الوسط إلى الأعلى أو انتهاءً بالعكس من الأعلى إلى الأسفل، في مسرح زمني مضمر باعتبار الرائي للعمل.

  • التكرار والنمط Repetition and Pattern :

    التكرار في شكل التنصيص أعطى معنى تجريديًّا للوحة، وخلق لنا حركة من وسط العمل واندفاعًا سريعًا للأعلى مترابطةً في الوحدة ومؤكدةً على الشكل مصورة أثر الانفجار والانتشار الأفقي مع حركتها العمودية إلى أعلى مشكلة شكلًا مخروطيًّا.

  • التناغم Harmony :

    خلق الفنان في تكراره لشكل علامات التنصيص في اللوحة تناغمًا ترتيبيًّا عن طريق التكرار، مما أدى إلى الإحساس بالحركة.

  • التنوّع والوحدة Variety and Unity :

    التكرار في شكل التنصيص يعطي الوحدة أو النظام الذي يربط الأشكال بعضها ببعض وفق قانون واحد، مما جعل أشكال التنصيص جميعها تحت منظومة قانونية واحدة، بينما اختلاف اللون بين الأزرق والأحمر أعطى التنوّع في التفصيل والانتماء إلى مجموعتين متباينتين.


  • التناسب Proportion :

    خلقت الأحجام المختلفة لعلامات التنصيص منظورًا نحو الحركة والعمق متجهة إلى النقطة السوداء.

  • التباين Contrast :

    جاء التابين من استخدام اللونين المتباينين الأبيض والأسود، فأعطى لنا التركيز نحو نقطة معيّنة، وحدودًا فاصلة بين الشيء وضدّه، فركز النظر نحو الأشكال الداخلية (علامات التنصيص)، وجعل الحد الفاصل بين العالم المنظور والعالم الخفي (الأبيض والأسود).

عندما تتعرض العناصر كل مقابل الآخر عن طريق توازن التقابل أو التضاد نستطيع التعرف عليها وفهمها بسهولة

جيروم ستولنيتز
  • التناظر التماثلي Symmetrical Balance :

    يحقق التناظر التماثلي إحساسًا بالقبول النفسي والراحة اتجاه اللوحة، التناظر المحوري الرأسي من ابسط أنواع التوازن بالتناظر بين الطرفين الأيمن والأيسر. 


تأويل قطب الرحى

العلم نقطة كثّرها الجاهلون

الإمام علي بن أبي طالب

في البدء كانت النقطة، ومن النقطة ظهرت كينونة الإنسان، وبكينونته كان اتصاله بكل الكون، ينبض حياةً من خلال روح الكون، ويبدأ بتشييد الطرق والقنوات للاتصال بالعالم العلوي والمتعالي والروحي والكوني من خلال الأحلام والصلوات والوحي والتأملات، يقدّم نفسه قربانًا ويقتل ذاته متحررًا من ماديته ليتحرك إلى الأعلى، وتنبعث الطاقة والحركة من أعماق نفسه، وعادة ما تكون الهبة العليا له رموزًا وأرقامًا، شفراتًا ومفاتيح رقمية، وكل تلك الهبات لغة وسيطة لتقريب الحقيقة للموجود القابع في ظلام الكهف الأفلاطوني، ذليل سلطة الحواس مكبلة جماح عقله ومطوقًا رقبتها ككلب يقبع على بوابة الكهف، بينما الكون بالنسبة له كجيب مثقوب أو كحقيبة بالية منسيّة، كلما اقتربت لغة الرمز إلى الحقيقة تبسّطت أكثر، زاد تكرارها لتوكيد كونها مطلقة، تنعكس في مرآة الكون في كل اتجاه وفي امتداد لانهائي تقبع بين المسافات في عدة صور، وتنعكس في مرآة الذات… كلها كلمة واحدة وحقيقة واحدة متجسدة في النقطة. البذرة أصل كل شجرة، ومن البذرة يمكن النظر إلى كامل الشجرةـ فالطبيعة تعمل على مبدأين (التكثيف والتمديد) فالبذرة تتمد وتصبح شجرة، والشجرة تتكثّف لتعود بذرة، الإنسان والكون لا يختلفان تمامًا عن البذرة، فالجنين ماهو إلى بويضة، والبويضة تنشئ إنسانًا متصرّفا بكل ما حوله، ومن هذين المبدئين يمكننا أن ننطلق لنشاهد عظمة كل شيء، نمد الأشياء ونمدها إلى اللانهائية، حتى نعجز عن اداركها ورؤيتها، أو نعود لنشاهد كيف نجمع هذا الامتداد اللانهائي من جديد في النقطة، ومن النقطة تبدأ المعرفة.

لكن أليست هذه لعبة عقلية، لعبة زينون المثيرة، الامتداد واللانهائية هي مسافة كل شيء، من النقطة الثابتة إلى كل شيء امتدادٌ لا نهائي، عدد لا نهائي.

‏نصفٌ في مترٍ أبدي في نصفٍ من مترٍ أبدي
في نصفٍ من مترٍ أبدي
(من أنت؟!)
أسائل أخيلتي
فيطل يلوح لي عددٌ أبدي
في عين العدد
وأراني كوناً ملأ يدي

محمد صرخوه

هذه الحواس، قنوات المعرفة الأولية، طوّقت البشرية في ذات التجربة والصور المتكررة عن الحقيقة، وهذا ما يفسر نمط التصرفات والسلوكيات والهواجس والأسئلة بل وحتى صور الأحلام والأدب والأساطير، جاء الفلاسفة ليعيدوا تفهمين البشرية عن هذه الأشياء، فخلق أفلاطون عالمه المثالي وفرويد لاشعوره ويونغ عقله اللاواعي، وهكذا تباعًا كل الفلسفات منطلقة من الحركة والثبات (اللوغوس)، كل شيء يجري وفي حركة دائمة، كل شيء في هذا الوجود المادي داخلٌ في سلطة الزمان المتغير، ولا يمكن تقدير المتحرك إلا بالوقوف على نقطة ثابتة، فالثبات والحركة الثنائية الأولى لكل ثنائية بعدها، وليحاكي هذه المتغيرات جعل تعبيره عنها تعبيرًا رمزيًّا أودعها في الأرقام والأشكال الهندسية.

(الين واليانغ Yin and yang)  التعبير الأول والأكثر وضوحًا بين التعبيرات عن هذه الثنائية، فكل ما هو ساكن هو (ين Yin) وكل ما هو متحرّك هو (يانغ yang) والحياة والموت هو التفاعل الأبدي بين اليانغ والين اللذين يتداخلان باستمرار كلٌّ يحتوي الآخر، في الثنائيات، ما من شيء يؤثر في أحدهم إلا وينعكس في الآخر هذا التأثير.

على مستوى التأملات، تظهر اليانغ والين في رغبتنا العارمة والتطلّع الدائم لمعرفة العالم الواسع حولنا، والامتداد اللانهائي نحو الخارج، نحو الأجرام السماوية والمجرات والملكوت الأعلى، وبنفس الوقت الحاجة الملحّة الصارخة في العودة للداخل والنظر إلى الذات واستكشاف نواة الرغبة ليعيد لنفسه الهدوء والاستكانة والثبات،

اليانغ في الرغبة بالامتداد والتوسع، والين في الرغبة بتجميع الشتات والتكثيف.

جاء التعبير للنفس الكليّة تعبيرًا ثابتًا في كل الثقافات والأديان والحضارات، النقطة في أصلها ووسطها، متوسعة على شكل حلقات دائرية أوسع فأوسع، تمامًا مثل لحظة رمي حجرة في بركة ماء ساكنة، ما إن تقع الحجرة في وسط الماء إلا وتتراءى أمواجها منطلقة منها كنواة ومتوسعة على شكل دوائر، هذه الصورة من المسافات الثابتة ما بين المركز والمحيط هي عملية التكوين والحياة، تمامًا مثل العجلة، لكن لحظة! ألا تعد العجلة أهم اختراع بشري!! ألم تجعل العجلة كل شيء يتحرك في عالمنا المادي؟!

من أين استلهمت البشرية فكرة العجلة في أول مرّة؟

تمركزني على فلَكٍ مدوّرةٍ
و تُلقي سلّم الملكوت منتشياً من الومضِ
أروم الشيء من أستار مرآةٍ
كنبض الكون منبسطاً على القبضِ .. 

محمد صرخوه

العقل والروح نقطة تتوسط كل شيء، نعم، في تحرك دائم لكنها ذات حركة خطيّة، تتمركز في النفس والكون الذي يمتد على شكل حلقات أوسع فأوسع تحرك على شكل دائري،

تمامًا شبيهًا بالدراويش والمتصوّفة فير أذكارهم المولوية، حركة ممتدّة مشكلة الشكل اللولبي المخروطي.

في البحث عن النقطة هذه والقمّة كانت كل هذه الفلسفات والمقولات والتأملات والتعبيرات الدينية والتراتيل والصلوات وكل شيء يتماس مع المقدّس،

فهذه النقطة تمثّل الاستكانة واللاحركة، القانون الثابت، مركز كل شيء، وكل شيء فيه، ومنه تشرف على كل شيء، فهو كل شيء. 

كل شيء بكل شيء..

كل هذا البيت يدري من تكون

محمد صرخوه

المخيلة البشرية في حركتها الديناميكية نحو الرموز والأشكال الهندسية، وضعت حدودًا تعبر فيها عن المكان أو المادة، أخذت شكل المربع، في حدود ثابتة، بينما جعلت الدائرة تعبيرًا عن عالم الروح أو اللانهائية، واستشرفت الهندسة علاقة العالم المادي بالروحاني، فالاتصال عبر نقاطها الأربع، تماسًا مباشرًا لا يخرج عنها، بينما المادة غارقة في جوفها وفضائها، إن أردت أن تنظر إلى مساحتها لو تعاظمت إلى أقصى درجة، هذه المخيّلة مثّلت دائرته الخاصة أيضًا -أي خياله وأحلامه وروحه- ضمن مربَّع واقعه.

إذا لم يدرك الإنسان أن المربع يقبع داخل الدائرة وليس خارجها، يكون بذلك غير مدرك لفلسفة حياته ووجوده، فما كينونة الإنسان إلا تلك المخيّلة الروحية وجسمه ليس إلا بيت يسكنه ووجوده ممتد لخارج حدود منزله ممتد لآفاق بعيدة ومسافات لا نهائية.

كأني أراك معادلة في حساب غريب: فمعطاك جسم ونفس وروح وناتجك الملكوت المهيب

محمد صرخوه

في رؤيتنا للحياة المادية هذه ونحو تطلّع الإنسان إلى خارج حدود المادة والتوسع إلى الامتداد اللانهائي، أو العودة إلى النقطة الثابتة الأولى، ظهرت محاولات الاتصال بالغيب، بالمجهول، انطلقت الفلسفة وانغمست في التصوّف والعرفان، وجاء الدين، ليعين الإنسان نحو الاتصال بروحه عبر تقديم الشعائر والطقوس والقرابين، وإن أقدم تجربة أمدت البشرية بهذه التجربة، كانت متجسدة في هرمس ثلاثي العظمة إذ جمع بين علم الخيمياء(المادة) والهيئة(الهندسة والفلك) واللاهوت.

هرمس أسس مبادئه السبعة وهي كالتالي:

  • أولًا: مبدا العقلانية Mentalism: وهو أن الكون كله بأكمله تكوين عقلي متعقّل منطقي مبرمج على الثابت من القوانين.

في هذا المبدأ نخرج من خدعة الحواس نحو كل شيء مرئي ووهم الزمكان المحيط بكل شيء، إلى حقيقة أن كل الأبعاد المادية وداخل كل ما يمكن ملاحظته وإدراكه زكل هذه الكثرات جزءٌ داخل العقل الكلّي، بما أن الكلَّ هو أس كل شيء، فلابد أن يكون ماهو موجود ولا وجود لغيره، بمعنى آخر أنه فقط ولا شيء غيره، ثابتًا أزليًّا سرمديًّا غير محدود بمكان أو زمان مطلق القوة وغير قابل للتحوّل، إذ كان الكون الذي نحن فيه موجودًا أو يبدو كذلك، فلا بد أنه قد جاء من الكلّ هذا، وكل مافي هذا الكون من جزئيات وذرات وتغيّر مستمر لا تطابق مفهومنا للكل، فلابد إذن أن تكون لا شيء، لأنها لو كانت شيئًا لابد أن تكون من الكل، ولا يصح أن الكل خلقها من لاشيء، أو أن نقول بأن الكلّ خلق الكون من جوهره ومن طبيعته، ولكن الكلّ لا ينقسم ولا يتجزّأ، ولا يتحول أو يكون شيئًا آخر، والحل لكل هذه المسألة هي في القول أن الكلَّ خلق عقلًا، تمامًا كالصورة الذهنية في عقلك أو الصورة الرقمية في جهازك.

الكل هو عقل، والكون جزءٌ من المركّب العقلي
  • ثانيًا: مبدأ الترابط Correspondence: كل ما يجري في الأعلى يتأثر مافي الأسفل، وكل ما تغير في الأسفل يؤثر في الأعلى، فالكل مربوط بالكل، كل جزء مؤثرًا ومتأثرًا بالآخر، فقد عبر هرمس عن مستويات الوجود بتقسيميه إياها على ثلاثة أقسام: العقلي، والروحي والمادي وهو تمامًا ما يشير المثلث إليه في الرمز الهندسي، من كونه اتحاد الروح والمادة، داخل العقل، أو بتعبير آخر العلاقة الثلاثية في الخالق والمخلوق وعملية الخلق.

  • ثالثًا: مبدأ الاهتزاز Vibration: لا شيء ساكن، كلُّ شيء يتحرَّك، كلُّ شيء يهتزُّ.

    صلة الوصل بين الأجزاء هي في حركاتها الدائمة والاهتزاز، ما الطاقة إلا اهتزاز الجسم، والجاذبية إلا وليدة هذه الاهتزاز، الضوء واللون والمادة، الإحساس والمشاعر، التفكير والتأمّل، الصلاة وكل شيء مادي أو محكوم به يهتزّ ويتحرك

  • رابعًا:  مبدأ القطبية Polarity: كل شيء ثنائي. كل شيء له قطبان. كل شيء له وجهين متضادين، والمتضادان لهما نفس الجوهر.

القرب والبعد اللذان تصاهرا توًّا

يقولان القريب غدا بعيدًا والبعيد غدا قريب

محمد صرخوه
  • خامسًا: مبدأ الإيقاع Rhythm: كل شيء له إيقاع معين، كل شيء يصعد ويهبط ويعمل بشكل موجي معين، يخلق تمايزه عن الآخر.

  •  سادسًا: مبدأ السبب والنتيجة Cause and effect: كل سبب له نتيجة، وكل نتيجة لها سببها. كل شيء يحدث نتيجة قانون. وما الصدفة إلا اسم لقانون لم يعرف بعد، هناك مستويات عدة للأسباب ولكن لا شيء يهرب من هذا القانون.

وترى بأنك تستحيل إلى محيط، آدمٌ في ضفتيك، واحد تدري بأنك جئت منه، وآخر تنسى بأنّه في يديك

محمد صرخوه
  • سابعًا: مبدأ النوع أو الجنس Gender: الجنس موجود في كل شيء. كل شيء له ذكريته وأنثويته، وهذا المبدأ يعبِّر في كل المستويات، ليس فقط على المستوى الفيزيائي، بل أيضًا على المستوى العقلي العاطفي.

كما أن الكلَّ موجود في كلِّ شيء، كذلك فكلُّ شيء موجود في الكلِّ. من يدرك هذا، يمتلك المعرفة

الكيباليون